الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

شجون الحديث حول الديمقراطية والانفتاح في المجتمع

2010-10-20
جريدةالشرق

حل وزارة الإعلام جعل الفجوة كبيرة بين الإعلام الداخلي والخارجي
المنتديات والمواقع الإلكترونية تعرض الآراء التي لا تجرؤ الصحف على نشرها
ما أهم إشكاليات الديمقراطية وكيف نتعامل معها؟

يثير الحديث حول الديمقراطية في مجتمعنا الصغير والذي يطرحه بعض الزملاء في الصحف الشجون من جديد، فبعض الصحف تمتنع عن نشر مقالات الرأي والرأي الآخر لزملاء المهنة، والصحف الأخرى تنشر بتحفظ! مما يجعل الحوار ينتقل إلى المنتديات والمواقع الالكترونية التي تنشر المقالات الممنوعة مع التعليقات عليها بجرأة لم نعد نراها في الصحف المحلية، وهو مؤشر خطير يدل على أن الحديث حول حرية الرأي والتعبير والانفتاح الإعلامي في المجتمع مازال بعد كل هذه السنوات من حل وزارة الإعلام محل تساؤل كبير يطرح في كل محفل للمقارنة بين الإعلام الداخلي، متمثلا في محوره الأكبر الصحافة، والإعلام الخارجي ممثلا بمحطة الجزيرة وملاحقاتها! لا أريد أن ادخل في مجادلات وردود حول ما كتب فليس هذا ديدني، وإسهامي في الموضوع يأتي من قبيل الإضافة إلى الحوار الذي انفتح بين النخبة في مجتمعنا وبعضها لا نرى ولا نسمع منه إلا في المناسبات والمواسم والأعياد. الملاحظ في الحديث عن الديمقراطية أنها تطرح من قبل الجميع والكل له رؤيته الخاصة حولها وهو حق مشروع إلا أن في الحديث حول التفاصيل (الشيطان يكمن في التفاصيل حسب المثل الفرنسي) نلاحظ أن الحوار يأخذ بعدا آخر غير ديمقراطي إطلاقا ولا يحترم أهم عنصر من عناصرها وهو الاختلاف والتعددية في الطرح، لتبدأ بعدها التصنيفات العرقية والعائلية والمذهبية والقبلية! والغمز واللمز بتاريخ فلان ومواقف علان وتوجهاته الفكرية! لقد استرعى انتباهي الحوار الحضاري والراقي بين الزميلين عبدالعزيز الخاطر ومحمد الخليفي وأيضا مقال الزميلة مريم ال سعد والدكتور حسن السيد عن قضايا الوطن، وكم أتمنى أن يتم توسيع دائرة الحوار في مشاركة أعضاء المجتمع والنخبة المثقفة في تناول القضايا المصيرية في المجتمع من خلال إفساح المجال الإعلامي بكل أدواته الصحافة والإذاعة والتلفزيون والجزيرة وإنشاء المنتديات أو المواقع التفاعلية وعدم التضييق على حرية الفكر والرأي والتعبير التي تطرح من خلالها، وإذا كانت مبادراتنا قد طارت إلى بيروت ودارفور ومحافظة صعدة وغزة وطهران، ففي نهاية المطاف لا بد لها أن تعود أدراجها إلى الدوحة وتبدأ بترتيب البيت من الداخل؟!
انطلاقا من نقطة الصفر (Ground Zero) نطرح السؤال البديهي: ما هي الديمقراطية؟ كيف نفهم الديمقراطية في مجتمعاتنا التي مازالت تتحدث عنها نظريا ولم تدخل في عمق التجربة عمليا؟! وما أهم الإشكاليات التي تواجهها والتي تمنعها من أن تكون ثمرة يانعة في صحرائنا العربية. ومع أن التعريفات كثيرة ومتشعبة حول تعريف الديمقراطية وهي متاحة ومتداولة، دعونا نركز على الإشكاليات وأتذكر في هذا السياق مقالة علمية من أروع ما قرأت تناولت الإشكاليات بمنهج التفكيك وإعادة التركيب بمشرط المفكر العربي جورج طرابيشي الذي يختصر إشكاليات الديمقراطية في العالم العربي إلى ستّ إشكاليات محورية، هي: إشكالية المفتاح والتاج، إشكالية الثمرة والبذرة، إشكالية المفتاح، إشكالية الشرطي ورجل المباحث، إشكالية الذئب والحمل، إشكالية الصندوقين. وتعني إشكالية "المفتاح والتاج"، ما يعنيه السؤال الأبديّ: منِ الأسبقُ: البيضة أم الدجاجة؟ أي هل أن الديمقراطية سبب أم نتيجة؟ فالذين ينطلقون من أنها هي الخلاص المطلق لكل ما نعانيه في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، يجعلونها "شرطاً سابقاً لكلّ نتيجة لاحقةٍ"، ولكن طرابيشي يشير بأن ثمة حالاتٍ لم تحتمل فيها مجتمعاتٌ بعينها قبول الديمقراطية مع أن جسم هذه المجتمعات كان مريضاً، ومع ذلك رفضها كترياقٍ سحريّ. وهذه المجتمعات ليست إلا بعض الدول التي يقال عنها إنها مسقط رأس الديمقراطية وليست دول عالم ثالث أو متخلف أو متأخر أو مفوّتٍ ومثالا على ذلك يذكر تجارب كل من الديمقراطية الأمريكية المكارثية والديمقراطية الفرنسية في الجمهورية الرابعة… وغيرها.، يتساءل من هنا ليصل إلى الإشكالية الثانية: "هل الديمقراطية ثمرةٌ يانعةٌ أم هي أيضاً برسمِ الزرع؟"، ويعتبر أنه إذا استنبتنا الديمقراطية عن طريق المثاقفة في تربة غريبةٍ عن شروطها وطبيعتها ولم نجعل منها كائنا داخلياً وصالحاً للتكيف مع ما هو خاصّ فسرعان ما تذوي "وتتحوّل إلى عشب سامّ"… وقد فعل هذا كثيرٌ من الحركات السياسية التي استوردت البضاعة الأجنبية إلى جانب "الديمقراطية" لتنشرها في سوقٍ داخلية غير مؤهّلة للتعامل معها. فالديمقراطية، على هذا الأساس وكما يدعون، هي مفتاحٌ لكل الأبواب، ولكن لماذا يتجاهلون أنها "هي نفسها بحاجة إلى مفتاح، ولعل بابها لا ينفتح إلا بعد أن تكون سائر الأبواب الأخرى قد فتحت"؟
ويعتبر طرابيشي أن المفتاح الحقيقي للديمقراطية هو: شرطُ الحامل الاجتماعي لها. ويفسر ذلك بأن الديمقراطية هي من نتاج الحداثة التي كانت أصلاً نتاجاً للطبقة البرجوازية الأوروبية ولهذا "إن الديمقراطية وان لم تتواجد حيثما تواجدت البرجوازية فإنها تغيب حيثما غابتْ". ومن هنا تغيب الديمقراطية عن الدول التي تحكمها "الأنظمة الثورية الانقلابية" التي كانت تعتمد على توظيفِ المجتمع في خدمتها جاعلةً منه حقل صراعٍ مخابراتيّ يفسد بعضه بعضاً… و"يُفسد" فيه الأخ على أخيهِ، والابن على أبيه. وذلك من خلال الاعتماد على رجل المباحث في إدارة شؤون الدولة، لا رجل الشرطة. وهذه هي الإشكالية الثالثة، التي تغيب معها وظائف القانون التي يسعى إلى تحقيقها رجل الشرطة كحارسٍ للقانون وتمت الاستعاضة عنه برجل المخابرات الذي يشتغل وفق منطق الولاء الشخصي والطائفي والعشائري، أي غابت الدولة عن المجتمع العربي وحضرت بدلا منها صيغ وتشكيلات هجينة سرقت دورها وغيبت وظائفها… ويقول طرابيشي: "وبدون أن نماري في ضعف المجتمع المدني العربي وطراوة عوده وضيق هامش استقلالية المنظمات الناطقة باسمه ومحدودية فاعليتها، فإننا نعتقد أن مردّ المأزق الديمقراطي في العالم العربيّ ليس إلى قوة حضور الدولة، بل على العكس — ومهما بدت المفارقة قويةً — إلى استضعافها وتغييبها".
ومع هذا لا يقف طرابيشي موقف المعجبِ الرومانسي بالدولة أو المجتمع، فهذان ليسا ضحية ولا حملاً ولا يمكنُ اختصارُ المسألة إلى ثنائية نبرّئ أحدَ عنصريها ونلقي التهمة كلها على الجانب الآخر. وهذه ما يسميها بإشكاليةِ "الذئب والحمل". وفي الحقيقة، ومع قسوة الموقف هنا على المجتمع وناسهِ وعبادِه، والواضح أن طرابيشي يريد من هذه القسوة المفرطة أن يذكّرُ المجتمعَ ولاسيما "المدَنيّ — الأهلي" بدورِهِ ومسؤوليتِه في قضيةِ الديمقراطية… ولكن ما يراه من أمراضٍ خطيرةٍ مصاب بها هذا المجتمع ما هي في النهاية حسبما نرى إلا نتيجة لكل ما ذكره هو نفسه من تغييبِ دورِ الدّولة وإعطاءِ الأولوية للمباحث على حساب القانون، مما خلق شخصيةً اجتماعية متحلّلة من مسؤولياتها، تتمتع بالانتهازية والطائفية والفئوية، شخصية قبلتْ أن يُعادَ تجهيلها ثقافيا وسياسياً، إضافة إلى أميتها.
الإشكالية الأخيرة التي يراها طرابيشي في قضية الديمقراطية في عالمنا، هي إشكالية "الصندوقين"، صندوق الاقتراع وصندوق جمجمة الرأس، على حد تسميته. والسؤال عن المكان الحقيقي الذي ينبغي أن تتجلى فيه الديمقراطية يجب أن يكون سؤالاً أكثر شفافية وشجاعةً أيضا: هل هي في صناديق الاقتراع؟ أم هي في مكان آخر؟ كيف ينتخب الأميون قياداتهم السياسية وممثليهم للبرلمانات العربية وهي برلمانات مصنعة وفق الأكثرية الحاكمة دائماً؟ وما معنى صفة "المستقلين" التي يتم إطلاقها عادةً على المرشحين الذين لا ينتمون إلى أحزابٍ مشاركة في الحكم؟ يقول طرابيشي "فالديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجمتعيةٌ، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات. ولئن كانت الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه وتختمر فيه هو جمجمة الرأس. وان لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع فان هذا الأخير لن يكون إلا معبرا إلى طغيان غالبية العدد". وللحديث بقية ربما تأخذ السنوات القادمة من عمرنا في الكتابة للصحف؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق