الأربعاء، 23 فبراير 2011

فجر الثورات العربية يولد من رحم "النت"

2011-02-23
جريدة الشرق

أعواد الثقاب وعلبة الكبريت "الجزيرة" أحرقت نظام مبارك
ثورة الإعلام الجديد تصنع التغيير في العالم العربي
دول الخليج تحتل المواقع الأولى في استخدام المواقع الاجتماعية
سقوط وسائل الإعلام ورموزها الموالية للأنظمة العربية الاستبدادية

حاولوا أن يخرجوا جثة الفيل الكبير من البيت الصغير بعد أن تعفن وانتشرت رائحته النتنة، عن طريق دفنه فى عمود صغير فى الجريدة وكتبوا على شاهد القبر فى عمود الرأى (اعتذار للشعب)، أما فى العالم الافتراضى على موقعهم فى الانترنت فاختاروا له عنوانا اخر (من أجل الشعب)، وهو الأسلوب المشابه الذى استخدموه فى اللعب بالصورة التى تمت فبركتها ليظهر الرئيس وهو يسير أمام الرئيس الأمريكى اوباما لا خلفه كما ظهر فى الصورة الأصل ونشرتها وسائل الإعلام العالمية؟! اعتذرت الأهرام اعرق مؤسسة صحفية عربية عن العمى الذى أصابها فى اندالع ثورة شباب ‏25‏ يناير تحت ستار فقدان الرؤية والبصيرة والاتزان! اعتذرت الأهرام عن كل انحياز للنظام الفاسد‏،‏ وعهدت بأن تنحاز دوما من اليوم وصاعدا إلى مطالب الشعب المشروعة‏،‏ وأن تظل ضمير هذه الأمة. وفى الختام طالبت أن يصفح عنها أسر الشهداء؟! وبينما تجرأت أقدم الصحف وأشهرها إلى الاعتذار ولو بطريقة مخجلة، إلا أن العشرات بل مئات من الصحف العربية والمحطات الإذاعية والقنوات الفضائية من دول الخليج إلى اليمن وبلاد الشام إلى المغرب العربى والسودان وصولا إلى الجزائر وموريتانيا لم تخجل بعد وتعتذر لا للشعب ولا حتى لنفسها، على الكذب المتواصل والنفاق المستمر وغسل الأدمغة والبروباجندا الذى تمارسه يوميا لخدمة اشد الأنظمة قمعا وتسلطا للفكر والرأى وحقوق الإنسان فى العالم العربي؟!
التحولات الجديدة التى صنعتها ثورة الإعلام الجديد فى المساهمة فى صناعة التغيير فى العالم العربى من خلال انتفاضة الشباب فى تونس ومصر، جعل الإعلام التقليدى الملحق بأجهزة السلطة الشمولية العربية يعيش مرحلة صعبة وحرجة لا يحسد عليها، وهى قد تعصف به وتعجل فى القضاء عليه دون سابق إنذار وخلال مدة زمنية قصيرة؟! لن نتناول التعليق على أزمة الإعلام السلطوى فالضرب فى الميت حرام، ويعتبر إضاعة للوقت والجهد، عوضا عن ذلك سنركز على دور الإعلام الجديد وأدواته الفعالة التغييرية التى اتضحت معالمها بعد ثورة الياسمين التونسية واللوتس المصرية. دراسة الإعلام الاجتماعى فى العالم العربى الأخيرة صادرة عن كلية دبى (2011)، اشارت إلى أن مواقع التواصل الاجتماعى مثل «فيس بوك» (Facebook) و«تويتر» (Twitter)، ستواصل لعب دورها المهم فى تنظيم الحراك الاجتماعى والمدنى فى العالم العربي، بخاصة لدى شريحة الشباب. وبينت الدراسة أن نمو استخدام مواقع التواصل الاجتماعى فى العالم العربى بلغ بنسبة 78 ٪ خلال العام الماضي. وكشفت أن «تنامى العدد الإجمالى لمستخدمى موقع «فيس بوك» فى العالم العربى بنسبة من 11،9 مليون مستخدم فى يناير 2010 إلى 21،3 مليون فى ديسمبر من العام نفسه». وذكرت أن الشباب يمثلون 75 بالمائة من مستخدمى «فيسبوك» فى الدول العربية. وجاءت دولة الإمارات فى المرتبة الأولى بين دول العالم العربى من حيث استخدام «فيس بوك»، حيث يمتلك 45 بالمائة من سكانها حسابات على الموقع. كما سيطرت منطقة الخليج العربى السعودية والكويت، البحرين، عمان، وقطر على المواقع الخمسة الأولى فى العالم العربى فيما يخص مستخدمى موقع فيس بوك قياساً إلى عدد سكانها وكان لبنان الاستثناء العربى الوحيد.
لقد بينت الأحداث التى شهدتها كل من تونس ومصر دليلا واضحا على قوة وسائل التواصل الاجتماعى فى تنظيم الحركات الاجتماعية فى العالم. واستطاعت هذه المواقع الوصول إلى شريحة جماهيرية واسعة من الشباب فى عدد من بلدان العالم العربي، فهناك ما يقارب 225 مليوناً من العرب تحت سن الثلاثين. وفى خلال الأحداث الأخيرة التى شهدتها مصر منذ 25 يناير الماضى برز دور الذى لعبه موقع «فيس بوك» على سطح الأحداث، إذ انه كان إحدى أدوات الاتصال الرئيسية بين المتظاهرين، مع موقع «تويتر».. حيث استخدموه لبث دعواتهم للتظاهر، إضافة إلى التنسيق بين المجموعات وتحديد أماكن بداية الفعاليات. وعلى محور مواز، عمل موقع «فيس بوك» كواجهة إعلامية بديلة، يتابع من خلالها الشباب كل ما يحدث من تطورات على ساحة الأحداث، بعد أن فقد هؤلاء الشباب ثقتهم فى مصداقية الإعلام الرسمي، الذى كان ينقل صورة «حكومية» مخففة للأحداث أو للإعلام الفضائى الخاص. لقد قامت العديد من القنوات والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية الإخبارية العربية والعالمية بنقل معلوماتها من المواقع الاجتماعية كما جاء فى تقرير صحيفة الشرق الأوسط. الكاتبة اريانا هفنغتون ورئيسة تحرير الهفنغتون بوست تؤمن أن الحال تغيير فى العالم العربي، فهناك أثر كبير للتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية فى تعزيز ثقافة السلام فى الشرق الأوسط بعد أن كان يستغلها الإرهابيون لتنفيذ أجندتهم السياسية والفكرية المتطرفة.
الإعلام الفضائى الإخبارى العربى تعلم الدرس جيدا واتخذ موقفا مساندا لنبض الشارع، وابتعد بشكل قطعى عن الوقوع فى مستنقع الوحل الذى يعيش فيه الإعلام السلطوى الخاضع للأنظمة الاستبدادية. وهو بدوره قام بتفعيل دور الإعلام الاجتماعى وصحافة المواطن من خلال إنشاء مواقع افتراضية له على الشبكة الاجتماعية وفى الأزمة الأخيرة استحداث صفحات على موقعه الخاص وفى نشراته الإخبارية ينقل الصور والفيديوهات التى تم أخذها من مواقع الأحداث مباشرة. محطة الجزيرة كانت الرائدة فى الحدث من خلال خدمة (شارك) التى نقلت شهادات حية من أرض الواقع من خلال تفعيل الكثير من الخدمات التفاعلية من استقبال المكالمات المباشرة الحية من موقع الأحداث، ورسائل الهاتف الجوال وكاميرا الفيديو التابع له، وتفعيل أدوات المواقع عبر الشبكات الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر واليوتيوب. وهو ما ساعدها أن تكمل تغطيتها رغم إيقاف البث على القمر الصناعي، وإقفال مكتبها، ومنع مراسليها من العمل وحجزهم فى السجون. قناة العربية أطلقت خدمة "أنا أرى" التى واختصت باستقبال وعرض الفيديوهات التى يرسلها القراء، وانهالت الفيديوهات بالآلاف، حيث بلغ عدد ما وصل من فيديوهات ما يقارب 6000 آلاف حسب موقع " العربية.نت". قناة البى بى سى العربية من لندن (BBC Arabic)، والقناة الفرنسية (France24)، عرضتا برامج حية تتناول صوراً ونصوصاً وأشرطة فيديو وتسجيلات أرسلها مراقبون هواة وتم التأكد من صحتها وترجمتها من قبل صحفيى القناة بالغة الانجليزية والفرنسية والعربية. وربما أجمل كلمة عبرت عن مدى قوة التغطية وتأثيرها فى الجماهير جاءت على لسان سيف الإسلام القذافى فى قوله "لن تضحك علينا العربية والجزيرة والبى بى سي" كما هاجم موقع الفيس بوك بالاسم!
أكثر الأحداث سخرية فى المشهد هى الحالة المغايرة التى خلقتها ثورة الإعلام الجديد وساعدت فى تحطيم وسائل الإعلام ورموزها التابعين لسياسة الأنظمة العربية الاستبدادية الشمولية التولتارية، وهى استطاعت" أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، لكنها لن تستطيع أن تخدعهم طوال الوقت"، والتى كانت تعيش فى عالم آخر (ارضى) غير عالمنا (الفضائي)، وحاولت بكل أدواتها ورموزها من قبيل السخرية والتهكم والهجوم فى الوقوف فى وجه التغيير وكسر إرادته والتقليل من حجم التأثير والانتشار والفعل الذى تقوم به وسائل الإعلام الجديدة، واضطرت فى النهاية لان ترضخ وتستسلم لكنها فى تقديرى لم تفهم وتستوعب الدرس بعد؟! لقد عادت بى الذاكرة إلى حادثة مشابهة عندما زار الرئيس المصرى السابق محطة الجزيرة فى الدوحة وقال معلقا على مبنى الجزيرة الصغير المتواضع جدا حينها بسخرية لاذعة "كل ده يطلع من علبة الكبريت دي؟ مقارنة بحجم مبنى الإذاعة والتلفزيون المصرى الرسمي! وتدور العجلة بعدها بما يتجاوز العقد من الزمن، لتقوم "أعواد الثقاب" التى اشتعلت من تغطية "علبة الكبريت" لتحرق نظام مبارك ووسائل الإعلام الموالية للأنظمة الديكتاتورية فى العالم العربي؟!.

الأحد، 20 فبراير 2011

النهضة لماذا تقدمت اليابان وتخلفت بلاد العربان

الأحد 20 فبراير 2011
اليابان بعيون عربية (4)
جريدة الشرق

أينما تولي وجهك شطر المشرق أو المغرب في بلاد الشمس المشرقة، سيظل يلاحقك سؤال النهضة لماذا تقدمت اليابان وتخلف العرب بدون أن تجد إجابة تشفي غليلك؟! لقد ظل هذا السؤال يلاحقني في كل ركن و زاوية تنقلت فيها بالمدن اليابانية في طوكيو، كيوتو، هيروشيما، وناكازاكي. على الرغم القراءة والاطلاع على العديد من الآراء والأطروحات والمقالات التي تشرح الأسباب والعلل المختلفة في عالم العربان من قبل اليساريين والعلمانيين والقوميين والاسلامين، ألا أن السؤال ما يزل يتداول ويثير الحيرة ويستعصى على الفهم والتعلم من عوامل التقدم و النهوض في التجربة التنويرية والحداثية اليابانية في العالم العربي. كيف استطاعت اليابان أن تغيير من وجهها البائس القديم في حقبة ما قبل الحرب وما بعد والتي قتل خلالها مليونا مواطن وحقبة ما بعد إلقاء أول قنبلتين نوويتين عليها والتي أدت إلى هلاك أكثر من 300 ألف ياباني؟ كيف استطاعت هذه البلاد المتواضعة أن تنهض من كبوتها وتقود التغيير والنمو وتنجح فيهما وهي المعروفة بفقرها الشديد في الموارد الأساسية والمواد الخام وحاجتها الملحة للطاقة؟!
الحديث حول النهضة ومتطلباتها يدفعنا إلى توزيع الأطروحات على فريقين كما يشير فيصل جلول، الفريق الأول يركز على تعلقه بأمجاد الماضي: الأندلس. الاختراعات العربية الإسلامية في الكثير من المجالات. السيطرة على أكثر من نصف العالم خلال العهود الأموية والعباسية والعثمانية وخلق مناخات تعايش وتعدد غير مسبوقة في التاريخ. والتمسك بـ"نظرية المؤامرة" للرد على التخلف الراهن. والتذرع باسرائيل في كل شاردة وواردة. الشكوى من وأمريكا والاستعمار. وتبني إيديولوجيات شمولية كالقومية والاشتراكية والدينية. أما الفريق الآخر فهو يعتمد على التبعية في التجربة الغربية والسير على رسمه. واعتماد الأمثلة اليابانية والهندية والنمور الأسيوية. وتبني مفاهيم العولمة والليبرالية والحداثة. ورفع شعارات المعاصرة والواقعية...الخ.
في النهضة اليابانية ومقارنتها بالعربية وهي مجال بحثنا، يرصد الدكتور مسعود ضاهر وهو احد المتخصصين في دراسة التجربة اليابانية في العالم العربي، أن رؤية العرب لليابان مشوشة، فهناك النظرة المفتونة ـ والفتنة حجاب ـ بالنهضة اليابانيّة التي ترفعها إلى مصاف المعجزة فلا معجزات في نهوض الأمم وسقوطها، وبناء عليه يفترض بالدرس التاريخي والموضوعي أن يلتمس الأسباب الحقيقية لا أن يقع فريسة التفسير الغيبي. النظرة السلبية التي لا ترى في ما قدّمته اليابان ما يغري إذ ينظر البعض اليها على أنها مجرد لصّاً تكنولوجيا يسطو على ثمرات أفكار الغرب ويعاود تغليفها بأختام يابانية، وهي نظرة جائرة، لأنّ لليابان مسببات ذاتيّة أنتجت نهضتها عبر إصلاحات جذرية مسّت بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
يستعرض ضاهر مجموعة من أعمال المفكرين والمثقفين العرب والتي تدل على القراءة الإيديولوجية لليابان، وهي قراءة جعلت الاهتمام ينصبّ أكثر على النهضة الأولى، لأنّ النهضة الثانية التي بدأت بعد سقوط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي هي نهضة كانت رهينة السياسة الأمريكية، وكان من تأثير الصراع العربي الإسرائيلي ان أسقط اليابان الحديثة من الاعتبار العربي بحكم أن سياستها في الشرق الأوسط تسير أغلب الأحيان وفق رغبات السياسة الأمريكية. وينوه ضاهر إلى ان عددا من المفكّرين القوميّين العرب اكتفوا بقراءة نهضة اليابان الأولى وهي نهضة لا نكران في حسناتها، إلا أنها كانت نهضة محكومة بأيديولوجيا عسكريّة توسّعيّة، تمجّد القوّة التي أرهقت منطقة الشرق الأقصى بالحروب وأزهقت ملايين الأرواح الآسيوية، وهي النهضة التي انتهت مع سقوط القنابل الذرية الأمريكية. أما النهضة الثانية فكانت نهضة لمصلحة الإنسان وليس الجيش، نهضة سلمية أسقطت من استراتيجيتها الطموح العسكريّ، بل ان رؤساء الوزراء اليابانيين لا يكفّون كما يقول ضاهر عن الاعتذار للشعوب الآسيوية عمّا سبّبه جيش اليابان من فظائع تجاه شعوبهم. وهذه مسألة في غاية الأهمية لأنها، من ناحية، تشي بالروح اليابانية التي تنتقد تاريخها ولا تمجد أو تبرّر أخطاءه، ولأنّها، من ناحية ثانية، لا تريد ان تتخلّى عن جلدها الآسيويّ. وما فعلته اليابان تجاه ضحاياها السابقين لم تُقدمْ عليه أيّ دولة استعمارية غربيّة تجاه ضحاياها والشعوب التي استنزفت ناسها وخيراتها.
وعن أسباب إخفاق مشروع النهوض إلى اليوم في بلادنا، يذكر ضاهر أن الحداثيين كانت نظرتهم لتراثهم مغايرة تماماً لنظرة الحداثيين اليابانيين لتراثهم، فالحداثيّون العرب أو بعضهم كانوا يدعون إلى نسف جسور الماضي، ولقد ترجم هذا القول شعرياً على الأقل لدى شعراء كبار، أمّا الياباني فانه لا يزال إلى اليوم يمارس طقوسه الشعريّة بأدوات قديمة دون الاستهزاء ببحوره الشعرية. ويعتبر الكاتب أن مقولة الحداثة من أجل الأصالة والتراث هي شاغل اليابانيّ ولا بدّ للعربيّ من أنْ يطّلع على هذه التجربة الفريدة التي استطاعت أن تكون في قلب الحداثة دون ان تدير ظهرها لتراثها العريق. وما يميّز المجتمع اليابانيّ أيضاً ويمنحه القوة والتماسك هو القاعدة العريضة من الطبقة الوسطى التي تصل إلى حدود التسعين بالمائة، في حين أن الدول العربية تقلص حجم هذه الشريحة يوما بعد يوم لحساب الطبقات الفقيرة ممّا يؤدي إلى تعزيز الشروخات وتوطين الأزمات عبر تحديق الفوارق الاجتماعية بين الطبقات في العالم العربي بخلاف المجتمع الياباني. وعن الاهتمام العربي بتجربة الحداثة اليابانية يشير أن هناك عشرات الباحثين اليابانيين قد تخصصوا في دراسة مختلف جوانب العالم العربي. وفي حين يتزايد عدد اليابانيين في مراكز الأبحاث اليابانية فإن عدد الباحثين العرب الذين أتقنوا اللغة اليابانية ودرسوا نهضتها استناداً إلى وثائقها الأصلية ما زالت قليلاً جداً، كما أن معرفة المثقفين العرب لليابانيين، ليست سوى صدى للدراسات الأميركية والأوروبية عنها.
في النظر إلى المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها اليابان ومقارنتها بتاريخ المنطقة العربية نجد أن هناك عدة أسباب جعلت التقدم يكون من نصيب اليابان، استعرضها الدكتور مسعود ضاهر ايضا في كتاب سابق له بعنوان (النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج) اهمها: أولاً: مركزية دور القيادة السياسية في حركة التحديث, وهو دور لا يمكن تهميشة أو تحويله إلى شرائح أو لاعبين آخرين في المجتمع. ثانياً: حسم صراع القديم والجديد, مقارنة بين فشل تجربة محمد علي في كسر شوكة الطوائف والقبائل والقوميات المختلفة ودمجها في مشروع وطني (جيش موحد, أنظمة إدارية تنظم العلاقات وتتجاوز القديم), مقابل نجاح اليابان في تطوير نظم اجتماعية نقلت الجوانب الإيجابية من النظام القديم بسلاسة إلى مرحلة التحديث وتواءمت معها. ثالثاً: مخاطر تحديث الجيش على حساب تحديث المجتمع, ومثال تجربة محمد علي الذي بنى جيشاً قوياً وحديثاً استنفد موارد الدولة, في حين بقي المجتمع على حاله المفككة والضعيفة. رابعاً: الأثر الكبير لصيرورة انهيار الإمبراطوريات القديمة وصعود الدول القومية الحديثة وانعكاس ذلك على النهضة في البلدان المرتبطة بهذه التحولات. خامساً: تحليل عناصر عملية مواجهة التحدي الرأسمالي. سادسا: ضرورة ومركزية احترام الأصالة وحماية التراث والتأكيد على دور الموروث في إحداث عملية التحديث.
بيتر بافلكا أستاذ العلوم السياسية الألماني يشير إلى عدة عوامل ساعدت في نهوض اليابان أهمها التفاف الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة حول الإمبراطور و "المبادئ الخمسة" الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي والتحديث وإقامة حكم دستوري (1886)، إزالة الطبقات الاجتماعية القديمة وامتيازاتها وإعلان التعليم الإلزامي (1873) وتأسيس مجلس الشيوخ (1875) وإصلاح النظام الضرائبي، بالإضافة إلى تطوير مستوى العلوم والآداب والثقافة. كما ساعد موقع اليابان الجغرافي على تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وكذلك التماسك الداخلي وتوحيد البلاد, والتوجه الكامل نحو التحديث الاقتصادي بتأسيس شركات مالية وإدارات عصرية اعتمدت أساسا على موارد البلاد الداخلية ومن دون مساعدة من الخارج، وهو ما ساعد على تحويل اليابان إلى قوة اقتصادية عالمية قادرة على حماية اقتصادها وكذلك المشاركة في السوق العالمية بنشاط واسع.

الأربعاء، 16 فبراير 2011

الحمد الله على السلامة يا مصر "بحبك وحشتيني"؟!

جريدة الشرق
2011-02-16

اختلفت مواقفنا في الأزمة: البعض مع النظام والآخر مع نبض الشارع!
هل يتم سرقة النصر من قبل أصحاب الأجندات والمصالح الضيقة؟
مصر على مشارف تحديات كبيرة فالثورة هي الخطوة الأولى نحو الانطلاقة
ضرورة ربط الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والتعامل معها كوجهين لعملة واحدة

سيف الله مصطفى (16) سنة، حسين طه 19 سنة، كريم أحمد رجب: 20 سنة، عمرو غريب: 25 سنة، حمادة لبيب30 سنة، وسالي زهران، وأكثر من ثلاثمائة شهيد ونحو أربعة آلاف جريح، يعود لهم الفضل الأكبر في تحقيق هذا النصر الكبير الذي حققته الثورة المصرية، التي انطلقت في ميدان التحرير سابقاً ميدان الشهداء حاليا! هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون الذين خطفوا أبصارنا واستولوا على قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا من المحيط إلى الخليج. كنا ننام على آخر خبر يأتي من ميدان الثورة، ونصْحوا في اليوم التالي على أول صورة تحدثنا عنهم وعن أوضاعهم في القنوات الإخبارية العربية والأجنبية، كان الجانب الخاسر يخاف منهم، ونحن كنا نخاف عليهم وندعو لهم بالأمس أن تنتصر الثورة بهم. وها نحن اليوم ندعو أن ترقد أرواحهم الطاهرة بسلام فدماؤهم النقية لم تذهب هباء منثوراً، لقد أعادت الأوطان إلى شعوبها وحررتنا من قيود خوفنا الأزلي في العالم العربي والإسلامي؟!
اختلفت مواقفنا في الأزمة، منا من وقف مع رأس النظام بشكل صريح وقاطع وهاجم الثورة، وطالبه بالبقاء في السلطة وعدم الرحيل، لأن النظام كان يسانده في المواقف السياسية والأمنية والمخابراتية التي تخدم مصالحه الخاصة، وتجعله يستمر في السلطة إلى اجل غير مسمى. والبعض كان يخاطب وده نتيجة المصالح الاقتصادية التي مهدت له بناء الشركات والدخول في اتفاقيات مشتركة اقتصادية وتجارية حصلوا فيها على أراضي الدولة لبناء المجمعات والعمارات والفلل بأرخص الأثمان. والبعض الآخر تعود على قضاء إجازته بين رفقائه في النظام والمحسوبين عليه في تبادل لحظات (الأنس والفرفشة). بينما تبنت شريحة المواقف الأخرى.. نبض الشارع.. ومطالب المتظاهرين بالحرية والديمقراطية.. وضد محاولة كسرهم وقمعهم بالحرب الإعلامية التي شنها النظام وأزلامه في نشر الأكاذيب والادعاءات والافتراءات، وللأسف انضمت لهذه الجوقة الخاسرة بعض الصحف ووسائل الإعلام العربية وفي بعض الدول الخليجية.. في محاولة بائسة لتصفيه حسابات وأجندات رخيصة والنيل من الثورة والقضاء عليها، ولكنه لا يفلح الماكرون؟! وهنيئا لكل أصحاب المواقف الشريفة الصادقة التي رفضت أن تمسك العصا من المنتصف، واتخذت موقفها المساند كليا للثورة وشبابها، وتعرضت للوقف والطرد كما حدث لبعض القنوات الفضائية العربية والعالمية ومراسليها، وفي الهجوم والنقد والتجريح للكتاب والمثقفين وأصحاب الرأي في الصحف والمنتديات الالكترونية.
من ناحية لا أخفي توجسي من المحاولات العديدة التي بذلت وستبذل لسرقة الثورة الشعبية من قبل أصحاب الأجندات والمصالح الضيقة التي ترفع الشعارات الوطنية المزيفة والقومية البائدة والحزبية الضيقة والدينية المضللة. لقد كانت ثورة ميدان تحرير الشارع بلا قيادات ولا رموز ولا حسابات. حتى الذين حاولوا ركبوا الموجة من القيادات التقليدية والحزبية كانوا يتركون هامشاً لمعاودة النظر في أي ردة فعل تنطلق من وسط الميدان، الكل كان ينظر ويترقب الخطوة القادمة من الشباب الثائر في الشارع لكي يطرح موقفه سواء في السلطة والحكومة المعينة، وحتى مناصرو الثورة ومؤسسة الجيش. رغم ذلك فإن إيماننا بإرادة الشعب المصري كبيرة، فهناك وعي يتدفق في عروق جيل جديد أدى.. أشعل الثورة والتحمت به الجماهير والنخب المؤمنة بالتغيير.. وهو قادر على صناعة المستقبل والتدخل في الوقت المناسب لوقف أي محاولات تهدف إلى تجيير أو اختطاف هذا الإنجاز الكبير.
مصر على مشارف تحديات كبيرة، فالثورة هي الخطوة الأولى نحو الانطلاقة، والخطوة الأكبر هي مرحلة إعادة بناء كيان الدولة ومؤسساتها التي تضعضعت مع النظام العسكري الذي شكل طوقاً نارياً حول عنق البلاد لأكثر من 60 سنة، ومع الانفتاح الاقتصادي الهش في عهد الرئيس السابق الذي أدى إلى تجزئة الاقتصاد المصري. فالديون المصرية تبلغ تريليون ومائة مليون جنيه، وتخسر مصر أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً نتيجة للنشاطات المالية غير القانونية والفساد الحكومي، وبلغت الخسائر 57 مليار دولار بين عامي 2000 و2008، وفقاً لمؤسسة النزاهة المالية العالمية (Global Financial Integrity — GFI). قناة السويس شركة خاصة لا أحد يعلم كيف تدار وأين مواردها، ومن الذي كان يحصل على هذه الموارد، رغم أنها في أقل التقديرات تحقق موارد قدرها 3 مليارات دولار سنوياً، وفى تقديرات أخرى أنها 6 مليارات دولار. ولا توجد معلومات كافية حول حجم صادرات البترول المصري، والمخزون الاحتياطي، والأراضي الزراعية، والمصانع التي تم تخصيصها. وتخسر مصر مليارات الدولارات سنويا بسبب تصدير الغاز لإسرائيل وعقد اتفاقية الكويز التجارية معها. يوجد فيها 180 ألف قضية فساد إداري سنوياً وأكثر نسبة أمراض الفشل الكلوي والكبد الوبائي والسرطان في العالم، ويتم ري أراضيها الزراعية بمياه الصرف الصحي والمجاري ويأكلها الشعب ويصاب بالأمراض الفتاكة. لا يزال في أم الدنيا 1179 منطقة عشوائية، يوجد بها 25 مليون فرد يعيشون في مجاعة، ويعاملون بشكل غير إنساني، بلا خدمات أو مرافق أو أمن أو استقرار. ويكثر فيها ضحايا حوادث الطرق بنسبة تفوق ضحايا الحروب، إضافة إلى انتشار الفقر المرض والتطرف والأمية. والخوف أنه بعد نجاح الثورة وفرضها واقعاً جديداً على الأرض، أن يفر عدد كبير من رجال الأعمال إلى الخارج بثرواتهم التي بنوها من بيع الاقتصاد المصري، والتربح من عرق المواطن المصري البسيط؟!
الثورتان المصرية والتونسية قبلها رسختا ضرورة ربط الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والتعامل معها كوجهين لعملة واحدة في العالم العربي من المحيط الخاثر إلى الخليج الخادر، فهي تعتبر العامل الرئيسي في جلب السلام والاستقرار. على الرؤساء والحكام والأمراء والأنظمة السياسية العربية القيام بإصلاحات جذرية الآن وليس أمس، أهمها رفض التوريث ووضع مدة زمنية محددة للأشخاص الذين يتولون الحكم.. والعمل على وضع آلية في التداول السلمي على السلطة، وفصل حقيقي بين السلطات ورفض السيطرة عليها من سلطة واحدة، وهي التنفيذية. وتعزيز ثقافة العدل والمساواة والشفافية والمساءلة والمحاسبة، واحترام كرامة المواطن وحقوقه وعلى الأخص حرية الرأي والتعبير وتشكيل الجمعيات والأحزاب والمشاركة السياسية، إن التأخير في الدخول في طريق الإصلاحات الجدية يولد احتقانات قابلة للانفجار في أي لحظة، شاهدناها انفجرت في اقل من شهر في تونس بعد 23 سنة قمع وسجون وتضيق، وفي أقل من أسبوعين في مصر بعد (30) سنة سيطرة أمنية محكومة بقانون الطوارئ العسكري. وحتى المجتمعات الخليجية المعتمدة على مصادر الريع النفطي والغاز ليست بعيدة عن الانفجار نتيجة الاحتقانات الكبيرة التي تعيشها من تهديدات داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية تمس المواطن ومستقبله، وتهديدات خارجية من قبيل الدخول في مواجهات عسكرية مع المفاعلات النووية الإيرانية لإعادة صياغة الأوضاع الأمنية في المنطقة والتعرض لخطر الإرهاب وخلاياه المنتشرة في شبه الجزيرة العربية. في الختام نقول: عليكم بالإصلاح والإصلاح والإصلاح يا أولي "الألباب" أو يا من تملكون القليل منه، لعلكم تفلحون؟!

الاثنين، 14 فبراير 2011

المنظومة التعليمية الكلمة السحرية في النهضة اليابانية

اليابان بعيون عربية (3)
جريدة الشرق
61-2-2011

التعليم هو الكلمة السحرية التي نتعرف بها على أسرار النهضة اليابانية. التعليم ومنظومته وجودته وكفاءته وتطوره، أحدثت النقلة النوعية في المجتمع الياباني منذ بداية القرن السادس الميلادي (كان العرب ساعتها منشغلون بتحريم العلوم غير الدينية وخصوصا الفلسفة)، ولكن القفزة الكبيرة جاءت مع عصر الإمبراطور ميجي (Meiji) وهي (باليابانية: 明治天皇 ميجي تينُّو‏). وتمتد من الفترة ( 1868 إلى 1912) ويعود له الفضل في اخرج اليابان من عزلتنها النسبية إلى الانفتاح على الآخر والتفاعل مع العالم أجمع. وضعت حكومة ميجي نظام للتعليم لتساعد اليابان على اللحاق بركب الغرب، حيث أرسلت بعثات للغرب لدراسة النظم التعليمية في الدول الغربية كما تشير موسوعة ويكيبيديا العالمية، ورجعت بأفكار مثل اللامركزية ومجالس التعليم المحلية، وبعد عدة محاولات لتعديل نظام التعليم توصلت اليابان إلى وضع نظام تعليم مناسب لها. وارتفعت نسبة التحاق الأطفال بالمدارسة من 40%-50% في عام 1870 إلى 90% في عام 1900. إستراتيجية ميجي قامت على عاملين: ابتعاث مئات الطلاب اليابانيين الشباب إلى كل من الولايات المتحدة الأميركية ، وانجلترا ، و فرنسا ، وألمانيا ، بهدف تعلم أسرار التكنولوجيا الغربية والإنتاج. ودعوة آلاف العلماء والخبراء الأجانب إلى اليابان بمرتبات عالية لمساعدة اليابانيين في إنشاء المعاهد والمؤسسات والمصانع بالإضافة إلى بناء شبكات للسكك الحديدية ،والاستفادة من خبراتهم في وسائل وأساليب الزراعة الحديثة. لقد قمنا بزيارة عدة متاحف في طوكيو وشاهدنا عن قرب مدى التحول الكبير الذي حدث في عهد ميجي من تقدم وازدهار، مما أطلق عليه عصر التنوير الياباني، تشبه بعصر التنوير الأوروبي.
قصة رمزية يقال أنها حدثت في عهد ميجي تروي عن الطالب الياباني الذي ابتعث مع مجموعة من الطلبة اليابانيين للدراسة في جامعة هامبورج بألمانيا، وحين بدأ دراسته الجامعية فوجئ بالدراسة النظرية وبالكتب الكثيرة التي عليه أن يدرسها، وكان يشغله هوس أسرار صناعة المحرك وكيف يتعلمها ويعود بها الى اليابان، وفي يوما ما اطلع على إعلان في الصحف عن معرض لمحركات، أخذ الطالب مكافأته ليشتري بها محركاً صغيراً قوة "حصانين" ودفع ما عنده وحمل "محركه" وعاد به إلى حيث يسكن ويدرس، وقرر أن يقوم بتفكيك هذا المحرك ثم يعيد تركيبه، ثم يحاول تشغيله، لكنه خاف إن فككه أن لا يعرف كيف يعيده، فأحضر حزمة من الورق، وكلما فك قطعة رسمها على الورق وأعطاها رقماً خاصاً، فلما انتهى من التفكيك، عمل على إعادة التركيب، ثم شغل المحرك واشتغل. قابل بعدها رئيس البعثة واخبره بحكايته، فمكان منه إلا أن جلب له بمحرك متعطل، وطلبة بتفكيكه، والكشف عن مكان العطل، و إصلاحه وتشغيله، وعمل على المهمة لمدة عشرة أيام حتى حدد مكان العطل، مستخرجاً ثلاث قطع تالفة، ثم صنع بيديه قطعاً جديدة، وكلفه ذلك : الالتحاق بمصانع صهر الحديد، مما جعله يترك رسالته والدراسة، ليتحول إلى عامل في صهر المعادن. وهنا كتب المشرف على البعثة رسالة إلى إمبراطور اليابان يخبره، بما فعله ويفعله طالب البعثة، فقدم له الإمبراطور خمسة آلاف جنيه ذهب، أنفقها كلها في شراء محركات وأدوات صناعية، ثم قرر العودة لبلاده، تاركاً الدكتوراه خلف ظهره. وحين وصل أول ميناء قيل له : إن الإمبراطور يريد أن يراك، فكان رده: لا أستحق هذا الشرف إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات في بلدي. في ظرف ( 9 ) سنوات أنجز صنع ( 10 ) محركات، خصص لها الإمبراطور قاعة في قصره، ثم قام تاكيو بتشغيلها، وعندما دخل الإمبراطور وسمع صوت المحركات قال: ( هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي)؟!
في عقد مقارنة بسيطة بين الإحصائيات العلمية نلاحظ أن القراءة عند الطفل العربي لا تزيد عن 6 دقائق في السنة، وأن متوسط القراءة لكل فرد في المنطقة العربية يساوي 10 دقائق في السنة مقابل 12 ألف دقيقة للفرد الواحد في اليابان والدول المتقدمة. و أن عدد الكتب المتوفرة للطفل العربي لا تزيد عن 400 كتاباً في السنة مقارنة بالطفل والياباني المتوفر له 13260 كتاباً في السنة. و أن كل 20 طفلاً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة بينما يقرأ كل طفل ياباني 7 كتب تعادل 140 ضعف عدد الكتب التي يقرؤها الطفل العربي. ويوجد في اليابان 5000 عالم لكل مليون ياباني، ولا يتجاوز عددهم 230 عالماً لكل مليون مسلم اغلبهم بمجال دراسات أدبية غير علمية؟! ومع أن ثروات العالم الإسلامي الطبيعية تشكل 65% فلا يزيد إنتاجه عن 12% من تقنية المعلومات والاتصالات في العالم بينما يرتفع نصيب اليابان من هذه السلع والخدمات إلى 23%.
في دراسها علمية مقارنة أعدها شبل بدران، وفاروق البوهي، عن (نظم التعليم في دول العالم)، واعتمدنا عليها في عرض لمحة تاريخية عن التعليم في اليابان، تذكر أن أول نظام تعليمي في اليابان وضع في عام 701، وتتالت بعدها التعليم في طبقات عشائر النبلاء و الساموراي. وبدأ التعليم لعامة الشعب في ما يشبه الكتاتيب والتي تدعى "تيراكويا" وفي فترة الإمبراطور ميجي وضع النظام الحديث في التعليم الذي يقسمه لعدة مراحل يشابه ما هو معمول فيه في العصر الحالي. ونظام التعليم المطبق حاليا بدء بالعمل به في ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي وضع وفقا لدستور اليابان وقانون التعليم الأساسي في اليابان. وقد نصت المادة رقم (4) من القانون الأساسي للتعليم ، بأن التعليم العام والأساسي إلزامي لمدة تسع سنوات ، ولا تتقاضى المؤسسات التعليمية أية رسوم لهذا التعليم.التعليم في ايابان يبدأ في مراحله الأولى في المنزل، حيث هناك عدد كبير من الكتب التعليمية الموجهة للأطفال للأعمار دون سن المدرسة بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية التعليمية المخصصة للأطفال والتي تساعد الآباء على تعليم أطفالهم. غالبا ما ينصب التعليم المنزلي على تعليم الآداب والسلوك الاجتماعي المناسب واللعب المنظم، بالإضافة إلى المهارات الأساسية في قراءة الحروف والأرقام وبعض الأناشيد الشهيرة.وعادة ما يضع الآباء العاملين أطفالهم في رياض للأطفال تدعى "يوتشي-إن" يعمل فيها على الغالب شابات صغيرات يكن في معظمهم طالبات معاهد أو جامعات في أوقات فراغهن وتكون تحت إشراف وزارة التعليم.
تبلغ نسبة الأطفال الذين يذهبون إلى رياض الأطفال قبل المدرسة الابتدائية حوالي 90% وغالبا ما يعلم فيها المهارات الاجتماعية الأساسية، قراءة الحروف والأرقام والتعرف على البيئة والعلاقات الإنسانية.ويعد التعليم الياباني متعدد ومتنوع يفي بحاجات مجتمعه ، ويخرج اليد الماهرة للشركات والصناعات .فبعد التعليم الأساسي والإلزامي والذي مدته تسع سنوات من (6+15) يأتي التعليم الثانوي، والذي يتكون من عدة مسارات (1) مسار التعليم الثانوي الأكاديمي العام ، ويأخذ نظام الساعات المعتمدة . (2) مسار التعليم الثانوي الفني ، ويتكون هذا المسار من ثلاث سنوات ، وبعد التخرج يلتحق الطلاب بالكليات التقنية ، وهناك مايقدر (20%) يذهبون للكليات التقنية ، والباقس يتجهون لسوق العمل . (3) مسار التربية الخاصة ، ويتكون هذا المسار من ثلاث سنوات ، ويعنى بتعليم الطلاب الذين يعانون من إعاقات سمعية وبصرية ، ومن ذوي الحاجات الخاصة الذين لا يستطيعون الالتحاق بالتعليم (4) مسار التعليم الثانوي بالمراسلة ، يتكون التعليم في هذه المرحلة من أربعة سنوات ، ويلتحق به الطلاب بشكل غير مفرغ ، ويعادل في مجمله السنوات الثلاث المكونة للتعليم الثانوي العام .
التعليم ما بعد الثانوي فهو موزع على الجامعات والمعاهد، حيث بلغ عدد طلاب الجامعات في اليابان 2.8 مليون طالب مسجلون في 726 جامعة في إحصائية (2005). وهناك ثلاث أنواع من الجامعات، وطنية و يبلغ عددها 96 جامعة. محلية وتشرف عليها حكومات المحافظات والمدن المحلية يبلغ عددها (39). وخاصة و يبلغ عددها (372) جامعة. كما ويبلغ متوسط كلفة الدراسة الجامعة للعام الواحد حوالي 1.4 مليون ين ياباني، ويعتبر من أعلى المصاريف التي تقل كاهل الآباء ، لذلك غالبا ما يعمل الأبناء أعمال إضافية مؤقتة بالإضافة إلى دروسهم الجامعية لتحصيل مصروفهم.
تتسم إدارة التعليم اليابانية بالتكامل بين المركزية واللامركزية وذلك من خلال توفير ميزانيات مضاعفة للنهوض بالتعليم ، حتى أن السلطات المحلية تساهم تقريباً بنصف نفقات التعليم ، وذلك على الرغم من الحجم الكبير للإنفاق الحكومي على التعليم الياباني بالنسبة للدخل القومي ، والذي يتجاوز 20% من مجموع الدخل القومي. ويتم المشاركة في التخطيط للتعليم عن طريق التواصل مع خبرات الآلاف المعلمين والنظار وغيرهم من خلال الندوات والمؤتمرات الإقليمية والمحلية التي لها دور فعال في التخطيط للتعليم، وقد حضيت فكرة الدوائر النوعية والتي تعتمد عليها اليابان في الإدارة اعتماداً كبيراً بقبول عالمي ، وتعرف الدوائر النوعية على أنها مجموعة من الأفراد يتقابلون بانتظام لتحديد موضوعات وتحليل المشكلات واقتراح أفعال. ويهدف التعليم الياباني بمحاولة الوصول بقدرات وأداء الطالب إلى أقصى حد ممكن ، وذلك من خلال: تعاون الأفراد . (2) و تحديد الأولويات. (3) والعمليات والخطوات التي يتم فيها مراعاة المتفوقين ، وذوي القدرات المتميزة مثل (الجوكو) هو نوع من الأنشطة اللاصفية ، يهدف إلى إثراء الفرد فوق ما هو مقرر عليه في المواد الدراسية.

الأربعاء، 9 فبراير 2011

ثورة اللوتس المصرية.. "أحبها من كل روحي ودمي"

2011-02-09
جريدة الشرق

فشل مواجهة عالم الفيس بوك بغزوة الجمال والحمير في ميدان التحرير
لم يعد بالإمكان الوقوف في وجه التغيير فهو خارج السيطرة الحكومية
القطار المصري السريع غادر المحطة.. فمن يكون القطار القادم؟

حاولت بكل ما استطعت من قوة وجلد، لكني فشلت في وقف الدموع من أن تنهمر من عيني وبغزارة، وعلى عجل كفكفتها، فالوقت ليس للدموع بل لكتابة تاريخ. لقد كان موقفا فريدا من نوعه لم أشاهد مثله من قبل في جميع المظاهرات التي قدر لي مشاهدتها أو حضورها. كنت حاضرا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي جلبت الرجل الأسود للبيت الأبيض (2008)، وشهدت المظاهرات المناوئة لسياسة المحافظين الجدد والحزب الجمهوري التي استخدم فيها الغاز المسيل للدموع والهراوات لتفريق المتظاهرين، الأمر الذي أصابنا بالتهييج في العين والأنف والفم لعدة أيام وما زالت حية في الذاكرة. وكنت حاملا آلة التصوير الخاصة بي لتسجيل وقائع المظاهرات الطلابية والنقابية قبل عدة أشهر في لندن (2010) احتجاجا على رفع الرسوم الجامعية وخفض الإنفاق الذي يطول قطاع التعليم العالي وقطاعات أخرى، وهي بدورها شهدت أعمال عنف وتكسير وتراشقا وضربا ومهاجمة سيارة ولي العهد البريطاني حيث تم كسر نافذة سيارته الرولز رويس ورشقها بالدهان، لكن منظر المتظاهرين في شوارع القاهرة وهم يستقبلون القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه بالركوع والسجود في (2011)، لهو مشهد رهيب وجليل في الوصف والتحليل، لقد دقت ساعة التغيير في مصر بعد تونس وهاهو تأثير أحجار نظرية الدومينو (Domino Theory) تقوم بصناعة تاريخ جديد في المنطقة التي اعتقد الجميع أنها كانت عصية على الحراك والتغيير في الوقت الحالي وانأ احدهم!
الكل كان يعتقد أنها سحابة صيفية تشابه سابقاتها من السحب العابرة لا تحمل في طياتها لا برقا ولا مطرا، وكانت المفاجأة صادمة ومدوية احتلت قلوب وعقول العالم، تراجعت خلفها كل الأخبار العالمية بلا استثناء. وحاول العديد من العربان ولا يزال من خلال وسائل الإعلام الحكومية المتخلفة والصحف البائدة أن يقلل من تأثيرها ومفعولها وانتشارها والهجوم عليها والطعن في شرعيتها مستخدما حتى الدين والفتاوى الأزهرية من قبل علماء السلاطين والمتاجرين بالدنيا والآخرة، ولم يزدهم ذلك إلا خسارا. لقد تطرقت صحيفة "إيلاف" إلى أهم عشرة مكاسب تحققت خلال أيام معدودة من عمر الثورة الشبابية المصرية منها استعادة المصريين الثقة في أنفسهم، وكسر حاجز الخوف من الأجهزة الأمنية القاسية، إلغاء تمديد الحكم للرئيس، القضاء نهائياً على سيناريو توريث الحكم لابن الرئيس، إقالة الحكومة الحالية، تخفيف قبضة الحزب الوطني على السلطة وتفكيكه، فك الارتباط بين رأس المال والسلطة، قبول الطعون على انتخابات مجلس الشعب، استمرار الدعم على السلع الغذائية والمواد البترولية، احترام أجهزة الأمن للمواطنين، وعودة شعار الشرطة في خدمة الشعب، محاكمة بعض رموز الفساد والقمع ومنهم رجال الأعمال ووزراء سابقون.
العديد من الرؤساء العرب وصلوا إلى الحكم في بلدانهم لا يملكون إلا رواتبهم العسكرية المتواضعة وهم الآن يحصدون ثمار استمرارهم في السلطة لعدة عقود بعد أن حولوها الى "جمهولكيات" وراثية. صحيفة الغارديان البريطانية (The Guardian) قدرت بأن ثروة عائلة الرئيس المصري، يمكن أن تصل إلى 70 مليار دولار أمريكي (أو ما يعادل 43.5 مليار جنيه إسترليني) فيما يعيش نصف الشعب المصري تحت خط الفقر، وأن جزءا كبيراً من ثروته يوجد الآن في بنوك بريطانية وسويسرية أو في صورة عقارات يملكها في كلٍ من لندن، ونيويورك، ولوس أنجلوس، وكذلك على امتداد مساحات باهظة الثمن من ساحل البحر الأحمر. يذكر أن الرئيس المصري عاصر 9 رؤساء اسرائيليين، 3 فرنسيين، 5 أمريكان، 12 رئيس وزراء بريطاني، 4 مستشارين ألمان، 3 ملوك سعوديين، أميرين قطريين، ملكين بحرينيين، رئيسين إماراتيين، ملكين أردنيين، رئيسين سوريين، رئيسين فلسطينيين، رئيسين جزائريين، و8 بطولات كأس عالم و28 بطولة دوري ممتاز مصري وهو لا يزال يطمح الى أن يكمل ولايته إلى آخر يوم!
شعارات مدوية حضارية رفعت في الشوارع المصرية "ارحل"، "الشعب يريد إسقاط النظام" "التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية"، واختفت الشعارات الأيديولوجية القومية والدينية المستهلكة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، "الموت لإسرائيل وأمريكا والإمبريالية العالمية"، "معاً لتحرير فلسطين والعراق"، ولم تشاهد حتى اليافطات التقليدية المسجلة باسم جماعات الإخوان المسلمين "الإسلام هو الحل" أو شعارات "القرآن دستورنا". مما دل على الوعي المغاير في استيعاب القضايا الوطنية المصيرية والشأن العام والظروف الحياتية ومشاركة اكبر عدد من الناس في التظاهر بغض النظر عن هوياتهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والمذهبية. القادة الحقيقيون في هذا التغيير هم الشباب غير المنظمين حركياً الذين شكلوا الكتلة الأكبر بين صفوف المحتجات والمحتجين وهم استطاعوا أن ينقلوا الوعي والتعبئة والحشد والتجمع الذي تشكل في العالم الافتراضي في مواقع البلوجز، والفيس بوك، والتويتر، واليوتيوب، الى أرصفة الشوارع ووسائل الإعلام وهواتف المواطنين على شكل رسائل يومية. واعتقد النظام الفرعوني انه قادر في زمن العولمة على أن يمنع الماء والهواء حتى تموت الثورة في مهدها من خلال قطع الانترنت والبريد الالكتروني وتعطيل شبكة الهواتف والرسائل النقالة ومنع القنوات الإخبارية ومنها الجزيرة من عرض الحقائق والوقائع على الأرض، وهو الأمر الذي فهمه الرئيس التونسي قبل هربه بدقائق بعد فوات الأوان، وهي الحقيقة الكبرى التي لم يستوعبها بعد معظم القادة العرب في العالم العربي أنه لم يعد بإمكانهم الوقوف في وجه التغيير فهو خارج سيطرتهم، كانت أكثر اللحظات سخرية في المشهد (الغزوة الكبرى للنظام) مواجهة عالم (السوفتوير) متمثلا بشباب الفيس بوك، بالبلطجية الذين يعيشون عالم الجمال والبغال والحمير وكانت المواجهة في موقعة ساحة الوطيس في ميدان التحرير وكانت الجحافل تلوح بالسيف والكرباج والشوم تبتغي النصر المبين وما هي الا دقائق حتى انهزمت شر هزيمة وتراجعت حاملة أذيال الخيبة وحيواناتها! لقد كانت الحادثة معبرة مثلت حجم الهوة التي تفصل بين عالم مستر جونز في مزرعة الحيوان (Animal Farm) التي عبر عنها جورج اورويل (George Orwell) وبين العالم الحديث والحضارة والعولمة ووسائل التكنولوجيا.
حكاية طريفة تروى عن الجنرال فرانسيسكو فرانكو (Francisco Franco) الذي تولى حكم اسبانيا بنظام ديكتاتوري أتاح له حكم البلد بيد من حديد، وأطلق على نفسه لقب "الكوريللو"؛ ومعناه القائد، وهو وصل إلى السلطة بعد الحرب الأهلية الإسبانية حيث قام بانقلاب عسكري ضد حكم الجبهة الشعبية الذي كانت إسبانيا تحت حكمه وكانت تتكون من حكم الديمقراطيين والاشتراكيين وقد قاومت الجمهورية الإسبانية الثانية هذا الانقلاب ومن هنا بدأت الحرب الأهلية الإسبانية، وبلغ عدد ضحاياها مليونا من البشر. وانتهت هذه الحرب بانتصار الجنرال فرانكو بمساعدة أساسية من هتلر وموسوليني. وهو مشهور عنه انه كان يعين كل أعضاء البرلمان الاسباني "الكارتز" وهو اقامه كمجرد ديكور حتى يقال عنه انه يمارس الديمقراطية واشتهر أيضا بتكميم الأفواه، وملأ السجون بالمعتقلين وكان لا يطيق أن يسمع كلمة (لا). وتحكي الرواية انه حين دخل (فرانكو) في غيبوبة الموت، تجمّع عدد كبير من الشعب الاسباني أمام قصره، وأخذوا يهتفون بحياته. وتصادف أن أفاق الجنرال من الغيبوبة، وسمع ضجّة الناس، فسأل طبيبه هامساً:"ما أسباب هذه الضجّة في الخارج؟" فقال الطبيب: "لقد جاء الشعب الإسباني ليودّعك ياسيدي!". ففتح فرانكو جفنيه في استغراب، وسأل الطبيب: — "ولكنْ إلى أين ينوي الشعب الإسباني أن يسافر؟".
القطار المصري غادر المحطة ولم يعد بالإمكان إرجاع ساعة الزمن إلى الوراء! فمن يكون يا ترى القطار القادم "رقم ثلاثة" الذي سيأتي عليه الدور في التحرك والانطلاق في العالم العربي؟.

الأربعاء، 2 فبراير 2011

المجلس البلدي بعد 12 سنة.. محلك سر؟!

جريدة الشرق

2011-02-02

هل يتم حل المجلس البلدي وتحويله إلى مجالس محافظات؟
غابت سلطة القرار وتحولت توصيات الأعضاء إلى حبر على ورق
وعود كثيرة وكبيرة وإنجازات مفقودة ومعدومة

ندوة هزيلة متواضعة جمعتنا للحديث حول جدوى تعديل قانون انتخابات المجلس البلدي. ولم تكن مفاجئة في غياب الحضور الجماهيري العام وأعضاء المجلس البلدي، وهو ما يشكل إحجاما شبه كامل عن تجربة تقارب 12 سنة من الحديث عن المشاركة في الانتخابات البلدية! ولو أنني لم اتسلم رسالة من الزميل الدكتور حسن السيد الكاتب والقاضي والخبير القانوني القطري المعروف، لمقابلته في فندق شرق مكان انعقاد الندوة، لما فكرت في الحضور ناهيك عن المشاركة، وفضلت البقاء في المجلس ومشاهدة الأخبار عن انتفاضة الشارع المصري، بعد انتشار عبق ثورة الياسمين التونسية في أرجاء العالم العربي، خاصة أنني في إجازة قصيرة معدودة أيامها على الأصابع؟!
إذا عدنا إلى الوراء قليلا سنلاحظ أن التقارير الإعلامية الدولية (AFP)، التي تناولت تغطية انتخابات المجلس البلدي الأخيرة في عام (2007)، أشارت إلى أن انتخابات المجلس البلدي الوحيد في قطر لا تثير الكثير من الاهتمام والحماس بين الناخبين القطريين الذين لا يزالون ينتظرون تحديد موعد أول انتخابات تشريعية جزئية مقررة. وبرغم انتشار الخيم الانتخابية وحتى مواقع الانترنت للتعريف ببرامج المرشحين للانتخابات البلدية فان الإقبال على متابعة الحملة الانتخابية بدا ضعيفا إلى درجة دفعت بعض الصحف للتحذير من ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع واعتباره مجرد "يوم عطلة"؟! ويعود ذلك إلى "انعدام الثقة في المجلس البلدي الذي لا يملك سلطة القرار فتظل توصياته غالبا حبرا على ورق". واعتبر بعض المراقبين أن "الحالة في مجملها تعبر عن توق لممارسة ادوار سياسية متقدمة" تفوق صلاحيات مجلس بلدي. كان هذا التعليق قبل أربعة أعوام والى اليوم لم يتغير الحال كثيرا، بل يبدو أن عامل الزمن توقف عند تلك اللحظة ولم يتقدم ويصل إلينا بعد؟!
تجربة 12 سنة من عمر المجلس البلدي مخيبة للآمال، وعود كثيرة وكبيرة وإنجازات مفقودة ومعدومة. الإشكالية الأساسية للمواطنين كانت هي مدى التطابق بين ما يُطرح في الحملات الانتخابية الدعائية وما يتحقق على الأرض، وهو ما أشاع نوعا من فقدان الثقة بين الناخب والمنتخَب، وانعدام المصداقية بين المواطن والقائم على تمثيله وإيصال صوته. وكانت المحصلة الختامية هي مجرد أصفار على الشمال، فلا صوت وصل ولا تغيير حدث. والمثير للضحك انه حتى الدوافع والمصالح الشخصية واستخدام النفوذ للعضو المنتخب لم يطرأ عليها الكثير من الحراك والتغيير حتى بعد انتخابه، مما جعل الناس تتندر على الكثير منهم وتطلق عليهم المثال الخليجي الشهير (لا يهشون ولا ينشون، ولا يحلون ولا يربطون). بالإضافة إلى الانقسامات والصراعات بين أعضاء المجلس، وحتى لا نظلم الأعضاء ونحملهم الفشل كليا من الضروري الإشارة إلى أنه لا يوجد تعاون حقيقي مع بين المجلس البلدي والجهاز التنفيذي المتمثل في وزارة البلدية والأجهزة المشابهة ذات العلاقة التي استقلت ثم حلت ومنها من عاد إلى الوزارة ومنها من لم يعد وما بدلوا تبديلا؟! كما أن القانون حجم الدور المنوط من المجلس البلدي أن يلعبه من رسم السياسات ووضع الخطط وتقرير المشروعات والمراقبة. استطلاع الزميلة "العرب" بين أن %42 منهم يرون أن أداء المجلس البلدي المركزي في دورته الأخيرة يعد ضعيفاً، فيما اعتبره %34 متوسطاً، ونسبة قليلة منهم اعتبرت أداء المجلس جيداً وذلك بواقع %6، فيما وصلت نسبة من لا يعلمون مستوى أداء المجلس في دورته الأخيرة %18.
لكن هل صحيح أن ضعف أداء المجلس البلدي مسؤولية المواطنين أولا لأنهم من ينتخب الأعضاء؟ هل هي انتكاسة لتجربة هدفت إلى إن تضعنا على الطريق الصحيح في المسارات الديمقراطية! لكن ما هي الديمقراطية؟ الديمقراطية ليست مجرد ورقة تُلقى في صندوق الانتخاب أو مقعد يحتلة نائب مُنتَخَب، كما يشير احمد الديين، وإنما الديمقراطية بالأساس هي مبادئ، تتمثل في الحرية والمساواة وهي قيم التسامح، والحوار، والتنوع، والتعددية. وتتمثّل في آليات من بينها: نظام انتخابي سليم يضمن للفرد المشاركة في صنع القرار ومراقبته، والتصويت، واعتماد قرار الغالبية، وحماية مصالح الأقلية، والتعددية السياسية، والتداول الديمقراطي للسلطة. كما أنها ضمانات دستورية تقرر مبدأ سيادة الأمة وكونها مصدر السلطات جميعاً وصاحبة الولاية على نفسها، وانفصال الدولة عن أشخاص الحاكمين، وضمان حقوق الإنسان، والعدالة، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، والمساواة أمامه، وإنصافه وعدله وضمانه التوازن بين المصالح المتعارضة، وامتثال السلطة للقانون، ومسؤوليتها أمام ممثلي الأمة ومساءلتها، والرقابة عليها، وفصل السلطات مع تعاونها.
هل نحن بحاجة إلى جرعة اكبر من الديمقراطية في مجتمعنا؟! بالتأكيد نعم. تقارير التنمية البشرية الدولية تشير إلى انه كلما ازدادت جرعة الديمقراطية في دولة ما ارتفع معدل سعادة الشعب. نحن بحاجة أيضا إلى زيادة مساحة صناعة القرارات الجماعية في مؤسسات المجتمع المختلفة من خلال حرية الطرح والنقاش المكشوف والشفاف والتسليم بحق الاختلاف والتعددية المحميّة بسلطة القانون الذي يوفّر حماية الحقوق الفردية من طغيان الاستبداد وتغوّل السلطة التنفيذية على حقوق الأفراد. ربما احد المآخذ الرئيسية في تجربتنا اعتمادها على القرارات الفردية الهرمية وتهميش القاعدية المؤسساتية، الأمر الذي يؤثر على عملية الحراك والتغيير في المجتمع ويحرمها من النضج والنمو، بل وينتج وضعا شائكا لا يهدف إلى الإقناع بل إلى الإخضاع، ينحدر من الأعلى إلى الأسفل، وقد تصبح العلاقة مع تعابير المجتمع المختلفة علاقة أمر ونهي وامتثال وقبول؟! التعبير عن الرأي والاختلاف لا يمكن أن يتم بدون تمكين الناس من الحريات المدنية والسياسية وضمان حرية التعبير والاجتماع على أرضية الاختلاف والائتلاف في الحجة والدليل والبرهان. ولكي تنجح التجربة الديمقراطية فإنها بحاجة إلى إعادة تعريف وتنمية دائمة وعقلنة وإدارة اختلاف.
عودة إلى موضوعنا، يقول أر سطو (إن آكل الطعام لا طاهيه هو خير من يحكم على المأدبة)، بعد كل هذه السنوات من التجربة الطويلة مع المجلس البلدي نستطيع أن نؤكد أن العملية أصبحت معوقة، محبطة، غير مجدية، ومعطلة للحراك والتغير على كل المستويات، وهي بحاجة إلى تفكيك وإعادة التركيب من جديد. بدوري أدعو إلى مقترح حل وتفكيك المجلس البلدي وتحويله إلى مجالس محافظات. بحيث يتم تقسيمها إلى عدد من المحافظات (خمس محافظات)، وتكون لكل محافظة الشخصية الاعتبارية، ويرأسها المحافظ (The Mayor) الذي يدير شؤونها ويمثل السلطة التنفيذية فيها. ويتم وضع نظام يضمن لكل بلدية في المحافظات أن تعمل على تطوير مناطقها ومراقبة مرافقها بشكل مباشر ووضع خطة خمسية لكل محافظة وان تخرج هذه الخطة من إدارة البلدية في المحافظة وتتضمن الرقابة المرفقية، وكذلك الرقابة التنظيمية والمعمارية وتجميل مناطق المحافظة مما يترتب عليه أن تكون هناك منافسة بين المحافظات. ويقوم القانون على منح كل سكان المحافظة الحق في اختيار ممثليهم الذين تكون صلاحياتهم فقط وضع الخطط التنموية لمحافظتهم ومراقبة تنفيذها.
قد يكون هذا الاقتراح إحدى المشاركات القابلة للطرح والتداول والنقاش في الساحة ولكن السؤال متى يأتي الدور على البرلمان الذي ما زلنا نسمع الجعجعة من حوله ولم نر طحينه؟!.