الأربعاء، 12 مايو 2010

ناقد العقل العربي د. محمد عابد الجابري

على هامش افتتاح احتفالية الدوحة عاصمة للثقافة العربية.. حديث لم يكتمل مع ناقد العقل العربي د. محمد عابد الجابري!!
2010-05-12

وعدنا بالحضور إلى قطر للحديث عن تجربته ومستقبل مشروعه الفكري.. ولم يمهله القدر!
برحيله فقدت الأمة أحد أهم رموز الفكر العربي التنويري خلال الخمسين سنة الأخيرة
مصادفة عجيبة أن تفقد الثقافة العربية فى أيام متتالية ثلاثة مصابيح أضاءت ليلها المعتم!!
جيل الجابري مثل علامة مركزية بين أجيال الفكر النهضوي العربي الحديث.

التفتنا إليه غير مصدقين، وطرحنا عليه السؤال بلا مقدمات: هل أنت الدكتور محمد عابد الجابري. فقال بكل ثقة نعم، أنا هو. قلنا له باستغراب، لماذا تجلس في الصفوف الخلفية، ولماذا لم يتم الاحتفاء بك بترتيب جلوسك في الصفوف الأمامية كأقل تقدير؟! فابتسم ولم يعلق.. جرى ذلك الحوار القصير الذي لم يكتمل على هامش افتتاح احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010 قبل عدة شهور. وبعد تبادل كلمات الإطراء أخبرناه بعزمنا على استضافته في الدوحة عن طريق مركز الإبداع الثقافي ليحاضر عن مستقبل الثقافة العربية وعن تجربته في نقد العقل العربي وأين وصل مشروعه الفكري النقدي، وقد وعدنا بالحضور والمشاركة رغم أن صحته لم تكن على ما يرام فقد كان يعاني من مشاكل في القلب، واليوم نحن نُحله ونعفيه من الوفاء بوعده، ولترقد روحه بسلام وطمأنينة، وتعازينا الحارة لأسرة الفقيد وللأمة العربية والإسلامية قاطبة لوفاة هذا المفكر الكبير الذي سخر حياته لإعادة قراءة التراث الفكري العربي الإسلامي. وقد كانت بالفعل مصادفة عجيبة أن تفقد الثقافة العربية فى أيام متتالية المفكر المغربى محمد عابد الجابرى والباحث السوري برهان البخاري والذي اشتهر بتأليف موسوعات من بينها موسوعة الحديث النبوي الشريف وموسوعة شعرية عن نزار قباني والموسوعة الشعرية من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وتفقد الصحافة العربية الكاتب المصري الساخر محمود السعدنى وهو الذي ترك للمكتبة الثقافية زاداً خصباً تنوع ما بين القصة القصيرة، وكتابة المذكرات وأدب الرحلة، ويروى أن السادات قرر منع ظهور اسمه في الصحف المصرية حتى ولو كان هذا الظهور في صفحات الوفيات؟!
"75" سنة عاشها المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري خاض في مجملها صراعات فكرية وفلسفية مازالت تشغل العالم العربي والإسلامي الذي لا يزال يتخبط بين تراث الماضي وإرهاصات الحاضر ورؤية المستقبل. لقد مثل الجابري مشروعاً فكرياً مميزا ورقماً صعباً لا يمكن تجاهله، وقد اعتبر أحد أهم رموز الفكر العربي التنويري خلال الخمسين عاماً الماضية في دراسة الموقف من التراث ومن نقد التراث وإعادة بناء التراث. لم أكن معاصرا للجابري في بداياته لكنني اطلعت على إنتاجه الغزير وعلى النقد الذي وجه له مؤخرا؟!.. ولا يملك المرء إلا أن يفتخر بهؤلاء العظماء الذين تركوا بصمه لا تمحى في تفكيرنا بطريقة علمية منهجية نقدية للتراث والمعاصرة والحداثة.
يمثل جيل الجابري كما يشير هاني نسيرة، علامة مركزية في الجيل الثالث من أجيال الفكر النهضوي العربي الحديث بعد جيل الإصلاحية الإسلامية، فالجيل الأول هو جيل طه حسين، وكانت مركزيته مصرية واضحة، ثم أتى الجيل الثاني متنوعا وثرا كعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وأنطوان سعادة ورفيق خوري وفؤاد زكريا ومحمود العالم، ثم أتى الجيل الثالث الذي كان الجابري علامة كبيرة عليه.. بعد صدور مشروعه الفكري الكبير، وصار الحديث عن مركزية مغربية فكرية تسحب البساط، ليس من مصر وحدها بل من المشرق أيضا. وقد سبقت مشروعه وتزامنت معه مشاريع عدة، مثل مشروع السوري الطيب تيزيني سنة 1973 عن التراث والثورة، ومشروع المفكر المصري حسن حنفي عن"التراث والتجديد" سنة 1981، ومشروع محمد أركون حول" نقد العقل الإسلامي" ومشروع مطاع صفدي على" نقد العقل الغربي"، وناصيف نصار حول" طريق الاستقلال الفلسفي" وربما كان الجابري من أكثر المفكرين العرب المعاصرين شهرة وحضورا، إن لم يكن أكثرهم ولكن هذا لا يقلل مطلقا من جهود كثير من مجامليه ومنتقديه، على السواء، وجوهريتها، وإن ظل مختلفا معها، فكل هذه المشاريع تمثل بتنوعاتها المختلفة معالم مشروع النهضة العربية الثانية وتنوعاته المختلفة. وقد قال عنه أشهر ناقديه وهو جورج طرابيشي تعليقا على رحيله "اليوم، إذ يسبقني إلى الرحيل، فإنّي لا أملك إلا أن أعترف بمديونيتي له: فهو لم يساعدني فقط على الانعتاق من الايديولوجي الذي كنته، بل كانت له اليد الطولى، ولو من خلال المناقضة ونقد النقد، على إعادة بناء ثقافتي التراثية".
خلف الجابري عدة مؤلفات قيمة حركت المياه الراكدة الآسنة في عقلية الفكر العربي ومن أهمها، «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» (1980)، «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي» "1971"، و"نقد العقل العربي" الصادر في ثلاثة أجزاء هي «تكوين العقل العربي» و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي"، «أضواء على مشكلة التعليم في المغرب»، «من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية»، «المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي»، «إشكاليات الفكر العربي المعاصر»، «وحدة المغرب العربي»، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات»، «الخطاب العربي المعاصر»، «وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر»، «المسألة الثقافية»، «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، «مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب»، «المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد»، «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، و"المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية" و«مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي» (1982) و"معرفة القرآن الحكيم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول" في ثلاثة أجزاء، وأخيرا "مدخل إلى القرآن الكريم".
لقد حاول الجابري بكل قوة ان يدفع باتجاه التفكير العلمي لاستكمال شروط النهضة العربية كما توصلت اليها النهضة الغربية حين اتبعت المنهج والاسباب والشروط نفسها. كانت رؤية الجابري بشهادة الباحث التركي محمد جول، أن هذه الأنظمة المعرفية التراثية هي المتحكمة بالحياة الفكرية العربية الإسلامية، وأنه ليس من السهولة التحرر منها أو تأسيس بديل عنها إلا بنقدها معرفياً، فهي على رغم ما أحدثه بعضها من ضعف للعقل العربي، مثل النظام المعرفي العرفاني، الذي تزعم نشره في الأوساط الإسلامية الإمام أبو حامد الغزالي، وعلى رغم ما أحدثه النظام المعرفي البياني من جمود على العقل العربي، الذي تمثل في المذاهب العقدية والفقهية، إلا أنها ما زالت حية ومعطلة للعقل العربي بسبب منهجيتها المعرفية العرفانية والبيانية معاً، بينما كان الأولى ترجيح النظام المعرفي البرهاني الفلسفي، والذي أهمله العرب والمسلمون في المشرق، واستفادت منه أوروبا من خلال كتب ابن رشد الفيلسوف، الذي حفظ المنهج الفلسفي عن اليونان، وترجم كتب الفيلسوف أرسطو المعلم الأول.
وعن المثقف العربي يؤمن الجابري ان المثقف هو الذي ينزل إلى مجتمعه ولا يعيش في برج عاجي، وهو الذي يلتزم بمبادئه ولا يقتات بها على الموائد السمان، وهو الذي يناضل من أجل مستقبل أكثر إشراقاً لأمته بالعلم والعمل. فعندما يترك المثقف همومه الشخصية وينخرط في هموم الآخرين، حينئذ سيكون مثقفا حقيقيا؛ أي عندما يتزوج المثقف — كما يقول الفرنسيون — هموم الوطن وهموم المجموع؛ ويحملها على ظهره! فالمشكلة — في رأي الجابري — تتلخص في أن المثقفين ينطلقون كأشخاص مستقلين؛ إذ إنهم عندما يفكرون كمثقفين ويشرعون للمستقبل؛ فالغالب أنهم لا يعملون كفريق في مختبر؛ بل كل منهم يفكر ويعاني ويعبر عما يفكر ويعاني. إن المثقف الحقيقي عند الجابري ينبغي أن يظل دائما "فوق" السياسي؛ أي أن يكون المثقف هو الذي يوجه السياسي، وأن تكون السياسات التي يبنيها السياسي مبنية على ما وصل إليه المثقف من تأسيسات نظرية ومن تقديرات للمواقف. والنصيحة التي يقدمها الجابري كقاعدة انه "لم يحدث في التاريخ أن وجد حاكم مستبد أو ناجح أو فاشل بمفرده. فمن يدورون حوله من مثقفين وفنيين وغيرهم هم المسئولون إلى حد كبير جدا على الفشل أو على النجاح.
وفي ما يتعلق بقضايا المرأة وما يصاحبها من معارك مجتمعية — لسنوات عديدة — علق الجابري على حادثة خروج"مدونة الأسرة" في المغرب التى هلل لها كل الفرقاء السياسيين والثقافيين، قائلا: أي فقيه يعرف الفقه كان يمكن له بمفرده ومعه كتبه، وبمعزل عن أي صراع أو خلفيات أن يأتي بتلك النتائج دون أن تخرج عن المجال الديني ولا عن كلام الفقهاء. فالمشكل — كما يقول الجابري — لم يكن مشكلا اجتهاديا فقهيا؛ بل هو تسييس المشكل. وربما هذه من أهم الإشكاليات التي نعاني منها اليوم في دول الخليج بشكل خاص والعالم العربي والإسلامي بشكل عام؟!
تعازينا في رحيل مفكرنا الكبير المغربي محمد عابد الجابري والباحث السوري برهان البخاري وفقيد الصحافة الكاتب الرائع محمود السعدنى "الولد الشقي". انهم حقا مصابيح أضاءت لنا الطريق في دهاليز وشوارع ليل الفكر والثقافة العربية المعتم؟!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق