الأربعاء، 17 مارس 2010

بطولة العالم للمناظرات

2010-03-17
المناظرات تسهم في الخروج من عقلية التفكير بالقرون الوسطى ودخول عصر التنوير
واقع دول العالم العربي مزرٍ ومتأخر ومتخلف كثيراً عن نظيره في الدول الأخرى
التحدي يكمن في استخدام اللغة العربية وتفعيل آليات التنظير بها
رغم خروج الدول العربية مبكرة من المنافسة في بطولة العالم لمناظرات المدارس التي احتضنتها الدوحة منذ مدة بمشاركة "57" دولة، حيث جاءت الإمارات في المركز الـ"27"، وقطر"32"، والكويت "34"، والسودان "38"، وفلسطين في المركز قبل الأخير "56" وهو المتوقع أصلا، لم أتوقع أكثر من ذلك في ظل معاناة زرع بذور الديمقراطية في الصحراء العربية؟! مع ذلك لم أتحمس إلى مشروع في
السنوات الأخيرة في مجتمعنا القطري، بقدر حماستي اليوم إلى مشروع نشر المناظرات في المدارس والجامعات وفي قطاعات المجتمع المختلفة. للأسف أن أغلب المشاريع المطروحة اليوم على الساحة السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية وبالأخص الاجتماعية تعتمد على التهويل والإثارة والترويج الزائف الذي تسمع طنطنته في وسائل الإعلام (التي تحولت إلى وسائل إعلان) ولا نرى طحينة، لذلك أنصح القائمين على المشروع في مركز مناظرات قطر من بعدم الانجراف نحو التلميع والظهور في وسائل الإعلام دون رسالة واضحة وهدف محدد، حتى لا يحرقوا أنفسهم، ويفقدوا مصداقيتهم، ويزيدوا من أعداد المتصيدين لأخطائهم؟! من الأفضل أن يجعلوا ثمار إعمالهم تدل عليهم، وبها يتعرف البعيد قبل القريب على مدى أهميتها وقيمتها في الحاضر والمستقبل، وحسنا فعلوا أن قاموا في التعامل مع التحدي الأكبر وهو اللغة العربية من خلال خلق قاعدة بيانات لمساعدة مدربي المناظرات باللغة العربية، للخروج بأساليب وطرق جديدة للتدريب على فن التناظر، فالواقع في دول العالم العربي مزرٍ ومتأخر ومتخلف كثيراً عن نظيره في الدول الأخرى، والتحدي يكمن في استخدام اللغة العربية وتفعيل آليات التنظير بها، وتحقيق التغيير التدريجي في البنية العقلية الداخلية في المجتمعات العربية، وعدم الركون إلى استخدام اللغة الانجليزية فقط، الذي قد يؤدي إلى غاية التلميع في الخارج والتزلف إلى الآخر؟!
تعود بي الذاكرة إلى الوراء إلى سنوات الدراسة في الغربة ودخولنا عالم المناظرات الساحر، الذي تعلمنا منه الكثير، وكان له الفضل في بناء وعينا وتشكيل ملامح شخصياتنا، وما زالت أذكر حصة مدرسة الأدب الانجليزي التي كانت تعتمد فنون المناظرات في توصيل المعلومات والاستيعاب للدروس التي تبدو جافة وصعبة على الفهم والإدراك، وكانت المواضيع كثيرة ومتعددة الجوانب، وليست مقتصرة على الأدب في المواضيع السياسية والفكرية والدينية والثقافية والاجتماعية، ولقد لاحظت على بعض التلاميذ (وكنت واحداً منهم) وخصوصا الذين يأتون من خلفيات شرق أوسطية وشمال إفريقية، أنهم يحملون أفكارا مسبقة، وإجابات جاهزة ومعلبة لم تنفض وتغربل، وتوضع في ميزان التمحيص والتفكيك والنقد، بل ويصدق عليها وصف الآية (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)، لذلك عمدت بذكاء أن تجعلنا نقوم بطرح القضية والدفاع عنها بالأدلة والبراهين والحجج في الأسبوع الأول، ونعود في الأسبوع الذي بعده لنقوم بمهاجمة القضية نفسها والنيل من المؤيدين لها بالأدلة والبراهين والحجج، ويا له من أسلوب في التعلم لم نعرف قيمته إلا بعد أن كبرنا، فلقد كنا دائما ننتقد أسلوبها ذاك، ونطلق عليها لقب (المتناقضة)، مر علينا الكثير من المدرسين بعدها، لكنها ظلت هي المتربعة في الصدر والمحفورة في الذاكرة، لقد علمنا أسلوبها الطريقة السليمة في معرفة وتفهم الرأي الآخر، وعرفنا معنى التسامح والقبول للمخالف وضرورة عدم الحكم على الأمور من الخارج بل التأني في النظر إليها ودراستها والتوصل إلى حلول وعلاج للمشاكل والأزمات بدل إصدار الأحكام الجاهزة والحلول السريعة، أو محاولة التهكم على الآخرين والسخرية من أفكارهم ومعتقداتهم، واتباع سياسة العزل والتهميش والنفي والتكفير لرأي الآخر المختلف؟! والتعرف بحق عن المعنى العميق الذي تحمله مقولة فولتير "قد أختلف معـك بالرأي، ولكنني أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعـبير عـن رأيك"، وحكمة الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". أو في المقولة الحديثة عندما ننظر للكأس هل نرى النصف الممتلئ أو النصف الفارغ (Glass Half Full or Half Empty)؟.
كان عندما يطرح موضوع الأديان أناصر إنا المسلم، المسيحية ورسالتها، ويناصر زميلي المسيحي رسالة الإسلام وسماحته، والزملاء الآخرون يتحدثون عن اليهودية، والبوذية، والهندوسية، لنعود في الأسبوع الثاني ونتبادل الأدوار، وعندما نتطرق إلى المذاهب والطوائف والملل والنحل، البعض يأخذ البعض جانب السنة، والبعض يتناول الشيعة، ويتوزع الآخرون مابين الكاثوليك ، والبروتستانت، والمورمن، وهكذا في المسائل الآخرة التي تدور حول الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية والفلسفة والأدب والإعلام ؟!
يشير تقرير (بان أراب ميديا)، إلى أنه وقبل قرن ونصف، جرت في سنة 1860، أول وأشهر مناظرة في التاريخ الحديث بين عضو الكونجرس "إبراهام لنكولن" الجمهوري، والسناتور "ستيفن دوجلاس" الديمقراطي، وقد كانت سبع مناظرات، بعضها في انتخابات الكونجرس، وبعضها في انتخابات الرئاسة، لكنها وضعت أسس مناظرات الانتخابات الرئاسية، لكن أهمها كان الموضوع الرئيسي الذي تناول تجارة وامتلاك الرقيق، وحسب مناظرات ذلك الوقت، تحدث كل واحد ساعة، ثم نصف ساعة ليرد أحدهما على الآخر، ففي البداية تحدث "دوجلاس" وأثار حماس المستمعين بأسئلته التعبوية مثل: "هل تريدون زنجياً يكون مواطناً متساوياً معكم؟"، وهتف بعضهم: "لا"، وسأل: "هل تريدون زنجياً يملك مزارع مثل مزارعكم وثروات مثل ثرواتكم؟"، وهتف بعضهم: "لا"، ليأتي بعدها "لنكولن" ويركز على بنود حقوق الإنسان والمساواة والحرية في الدستور، وعلى إعلان الاستقلال الذي لم يهضم من الغالبية في بداياته، وسأل: "ألم يخلق الله الناس متساوين؟"، وهتف بعضهم: "نعم"، وسأل: "لماذا لا نلتزم بالدستور وحقوق الإنسان؟"، وهتف بعضهم بخجل: "نقدر على ذلك، نقدر على ذلك (Yes We Can)" وهو الشعار نفسه الذي استعان به اوباما ليكون أول رجل اسود يصل إلى البيت الأبيض؟!، ظل "لنكولن" سنتين ـ قبل أن يفوز برئاسة الجمهورية ـ يدخل في مناظرات بالحجج والبراهين ويخسر بعضها ويكسب الآخر في محاولة بناء مفهوم جديد للمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، بغض النظر عن أصله وفصله وعرقه ومعتقداته، ثم بعدها بسنتين قبل أن يأخذ قراره التاريخي في صدور إعلان تحرير العبيد، ثم ثلاث سنوات أخرى قبل أن يعلن الحرب على ولايات الجنوب الكونفدرالية، التي رفضت تحرير العبيد حتى انتصر عليها..
إن استضافة قطر لبطولة العالم لمناظرات المدارس (2010) التي اختتمت منذ عدة أيام تدعو إلى الاعتزاز، ورغم عدم تأهل أي فريق عربي، إلا أن المشاركة بحد ذاتها من قبل الفرق التي قدمت من بعض الدول العربية تعد إنجازاً ورصيداً داعما في الدفع إلى الإمام، أتمنى أن يأتي ذاك اليوم الذي تدخل فيه فنون المناظرات المناهج الدراسية العربية وتدرس في الصفوف والمعاهد وتنتشر في مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام العربية، وتصل إلى العقول والقلوب، وتشكل ثقافة المجتمع العربي ليخرج من ثقافة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد إلى الأبد؟! ويخرج من التفكير بعقلية بالقرون الوسطى في الغرب ويدخل عصر التنوير، لينقل بعده إلى الحداثة، ويلحق بركب العالم الذي تجاوزه منذ 200 سنة؟!
Aljaberzoon@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق