الخميس، 7 أبريل 2011

زمن الغوص.. ليس كل ما يلمع "لؤلؤا"

جريدة الشرق
2011-04-06

ما الحكاية التى يجب أن تروى فى مهرجان الغوص البحري؟
فى البداية يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك وفى النهاية تنتصر
لقد تم القضاء على حقبة الغوص وجاء الدور على النفط!

هل نصب اللعنات على اليابانيين أم نطلب لهم الرحمة (الرحمة بالتأكيد خاصة فى هذه الظروف العصيبة التى يواجهونها مع اثار الزلزال وتسونامى وانتشار المواد المشعة من محطة فوكوشيما النووية)! رغم أنهم كانوا السبب فى نهاية حقبة زمنية ميزت دول الخليج عن الدول العربية الأخرى! كانت هذه المعضلة أشبه بلعنة تطارد المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما كان الخليج قبلة العالم لمن أراد أن يقتنى اللؤلؤ الطبيعى قبل أن ينجح صياد يابانى بسيط وهو "كويتشي" (MikimotoKōkichi)، فى انجاح تقنية زراعة اللؤلؤ بعد محاولات وتجارب مريرة وفاشلة، ومن العيش على السلف والقروض، استمرت الى أكثر من 15 عاما حتى عام (1920)، وقد اتهمه الناس بالجنون لأنه كان مثل ذاك الذى يتخبطه الشيطان من المس، لكن ما هى تعريف العبقرية ان لم تكن مسا من الجنون، لقد امتنعوا حتى من شراء الأرز منه وهو دخله الوحيد. لكن فى وسط المعمعة والجنون كان ايمان زوجته وامه دافعا له ان يستمر ولا يتوقف. وفى ذاك اليوم المشهود ذهبت زوجته سرا الى الشاطئ ويقول انها سمعت صوتا فى منامها يناديها من هناك، ولما فتحت القوقعة صرخت (يالهى انه اللؤلؤ)، كما صرخ امبراطور اليابان قبلها، عندما فعلها مواطن يابانى آخر ونجح فى صناعة أول محرك ماكينة يابانية، قائلا (هذا اجمل لحن موسيقى سمعته فى حياتي).
فى اليابان نهاية عام (2010)، أتيحت لى الفرصة ان ازور مزرعة لؤلؤ وأشاهد صورة (ميكيموتو) يمسك حبات اللؤلؤ ويفركها بيديه كمصباح علاء الدين، وساعتها احسست براحة داخلية فلم يعد ذاك الشعور بالهزيمة يستحوذ على تفكيري؟! وطلبت الرحمة لروح صاحبه ذوى العيون اليابانية الصغيرة. وايقنت بعظمة الافكار عندما تتحول الى وقائع تمشى على الارض مرحا، تخرق الارض، وتبلغ الجبال طولا، بعد ان تبدى بحلم، الكل ينظر اليه انه غير قابل للتحقيق ويسخرون من صاحبه؟! وكما قال غاندى فى كلماته المشهورة (فى البداية يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك وفى النهاية تنتصر).
على ضفاف الخليج فى اوطاننا لم ينهار اقتصاد أقدم المهن المعروفة فى المنطقة فقط (كان يجلب ما تقدر قيمته بـ40 مليون دولار سنويا لدول الخليج فى أوائل القرن العشرين)، بل النظام بأكمله (وهو من المأمول أن تقوم الثورات العربية الجديدة فى العالم العربي) وحل محله نظام اخر بعد حقبة اكتشاف النفط والمتغيرات التى صاحبته التى بدورها جلبت مئات المليارات من الدولارات (الحاضرة الغائبة بدورها). واليوم تدور قصص وحكايات ذاك الماضى على السنة الاباء والاجداد ونراها فى المناسبات الوطنية والاحتفالية وقد شهدنا بعضا منها فى احتفالية مهرجان الغوص البحرى فى قطر، والبحرين والكويت وعمان والسعودية والامارات، وفى دبى هناك مشروع لاحياء تجارة اللؤلؤ من خلال تأسيس بورصة للاتجار به ومشروع «لآلىء دبي» الذى سيكون بمثابة مجمع متكامل يضم مزرعة لؤلؤ وأكاديمية تعليمية وسوقا لبيع اللؤلؤ. ويضم المركز أيضا متحفا حول الأساطير والحكايات التى تتعلق باللؤلؤ وبالرحلات البحرية بالمنطقة. لكن المعضلة الأخرى التى تواجهنا فى منطقة الخليج اليوم فى استمرار التوتر والصراعات والحروب (حرب الخليج الأولى مع ايران والثانية مع العراق وربما الثالثة فى الطريق) وهى تركت بصماتها البشعة على ضفاف الخليج، وتسببت آثارها السلبية على البيئية البرية وبالأخص البحرية عن توقف مياه الخليج عن ولادة أى لؤلؤ منذ فترة، ونتيجة ذلك أصبح أهم منتجى اللؤلؤ والأصداف فى العالم هى: اليابان واستراليا واندونيسيا والهند وسيريلانكا وماليزيا وتايلاند والمكسيك والفلبين والصين وتايوان وغدونا خارج القائمة؟!
ولكن شهادة للتاريخ الذى يبدو أنه مغمور ومتجاهل عمدا، فحقبة الغوص للبحث عن اللؤلؤ لم تكن جلها زمنا جميلا كما يحاول ان يوهمنا البعض بذلك، فالبحوث والتقارير والكتابات التى تناولت هذه الحقبة تدل على تحديات ومصاعب حقيقية واجهتها وعصفت بها. (ريتشارد لو بارون) الذى زار منطقة الخليج فى النصف الأول من القرن الماضي، قدم أوصافا دقيقة لنوعية الحياة الموجودة فى تلك الفترة والمعاناة التى عاشها أصحاب الأرض فهو يقول «بعد نهاية موسم الغوص يكون الغطاس قد تحمّل المستحيل، فهو على الأرجح أكمل أكثر من 3000 غطسة فى عمق يتراوح ما بين 30 و50 قدما تحت الماء، مما يعنى أنه مكث تحت مياه الخليج من دون هواء مدة تتجاوز الأربعين ساعة فى الأسبوع الواحد. ليس من المستغرب أن يكون هناك مكان شاغر فى كل سفينة، فهذا المكان الشاغر تم حجزه لجثة غواص أعياه التعب قبل أن يفارق الحياة».
لقد بلغ شح استخراج اللؤلؤ الطبيعى أشده منتصف القرن الماضي، وصل الحد الى اخراج 300 ألف صدفة للحصول على لؤلؤة واحدة. ولقد أشار (آلانفيليير) فى كتاب"أبناء السندباد"، ان «مهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ لم تكن سوى تجارة قائمة على الديون». ويشير الباحث فهد المطيرى الى انه كانت هناك محكمة تعقد جلساتها سنويا للنظر فى المنازعات المتعلقة بشؤون الغوص، وكانت أغلب تلك المنازعات تتعلق بمشكلات الدائن والمدين فى ذلك «الزمن الجميل»! أعضاء المحكمة معينون من قبل الأمير، وهم عبارة عن أشخاص يمثلون شريحتى التجار و"النواخذة"، أما شريحة البحّارة البسطاء فلم يكن لهم تمثيل ضمن طاقم أعضاء المحكمة. وفى تاريخ الغوص يذكر الباحث على لسان سيف مرزوق الشملان، اذا مات البحّار وهو لا يملك غير بيت سكناه وله أولاد صغار وثبت أن البيت داخل عليه من دراهم الغوص فعلى "النوخذة" أن يصبر حتى يبلغ الأولاد رشدهم وحينئذ يخيرون بين دفع الطلب للنوخذة أو اذا ثبت أن البيت داخل عليهم من غير دراهم الغوص فبعد بلوغ الأولاد سن الرشد يخيرون بين بيع البيت ودفع قيمته لجميع الدائنين أو يبقى البيت لهم وهم يتعهدون بدفع جميع ما على والدهم من الدين. ويلاحظ الباحث أن مهنة الغوص أسفرت عن نظام تمويلى يمسك بزمامه ويحدد قوانينه طبقة واحدة فقط، وهى طبقة التجار، فالنواخذة لم يكونوا فى الأغلب قادرين على تمويل بناء سفنهم، فضلا عن تمويل الرحلة بأكملها. ولقد أدّى هذا النظام التمويلى الى تراكم الثروة فى أيدى مجموعة قليلة من أبناء البلد، وتراكم الثروة يعنى تراكما فى السلطة السياسية والاجتماعية وحتى الدينية. الغوص حكاية من حكايات كثيرة من الضرورى أن تروى عن تلك الحقبة الزمنية التى لا يزال البعض يتمنى عودتها حتى يتعلم الجيل الجديد أن الحياة لم تكن وردية خيالية كقصص ألف ليلة وليلة العربية؟!
كما فعل اليابانيون مع اللؤلؤ الابيض ما زالوا يحاولون انجاح التجارب مع اللؤلؤ الاسود؟. وهم على مسافة قريبة من تحقيق ذلك؟. فهل سنحكى قصص زمن النفط اليوم لأولادنا كماض جميل ام ماض حمل الكثير من الهموم والقضايا مشابهة لحقبة الغوص مع بعض التعديلات الحديثة تناسب القرن الحادى والعشرين؟!.
اخر الكلمات
ايه يا بحر، حكايانا كثيرة
مَلَّها الليل ومجَّتها الظهيره
كدّنى الغوص، وما زلت أسيره
ها همُ قد خلفوني...
كالبقايا... من نفايات حقيرة.
(على عبدالله خليفة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق