الأحد، 10 أبريل 2011

اليابان بعيون عربية (7)

جريدة الشرق
2011-04-10

اليابانيون ..الهوس بالعمل و الإبداع والإصرار على التفرد والتفوق

استغربت بشدة من السعر الموز العالي الذي وجدته يباع في احدي المحلات في العاصمة طوكيو الذي بدا لي غريب الشكل منذ الوهلة الأول! ولكن زال استغرابي عندما علمت أن السعر لا يتمثل بشكل الخارجي بلا بطعم الداخلي؟! هذا النوع من الموز الذي تجده في محلات معينة يتميز بطعم أكثر حلاوة نتيجة تعريضه طوال فترة تخميره لأنغام المؤلف الموسيقي النمساوي موزارت (Mozart). والموز غير الناضج يتم إحضاره من الفلبين ليوضع في مخامر تشغل طوال أسبوع كامل موسيقى موزارت، وقد قامت اليابان بعدة تجارب في محاولات مستمرة لاستخدام الموسيقى لإنتاج أنواع أفضل من الخضار والفواكه. إن هذه الرغبة في التفوق والإبداع ومحاولة إضافة الجديد في سوق العمل هو هوسا دائما عند اليابانيين. وهو ما جعل اليابان تحتل المركز الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة لسنوات طويلة ( قبل أن تزيحها الصين العام الماضي) من ناحية حجم الناتج المحلي الإجمالي الذي هو الفارق بين ما تصدره الدولة و ما تستورده من سلع و خدمات حيث تشكل التجارة اليابانية 7% من التجارة العالمية، فيما تحتل اليابان المركز الثالث عالميا من ناحية القدرة الشرائية للأفراد بعد أمريكا والصين. اليابان تمكنت من تحقيق طفرة اقتصادية سريعة نتيجة شراكة قوية بين الدولة و المؤسسات، واعتمادا على آداب و أخلاقيات متينة أثناء العمل، والتحكم في التكنولوجيا الحديثة، و خفض الإنفاق العسكري للبلاد (1% من الناتج المحلي الإجمالي) وهو عكس ما تفعله جميع دول الخليج بلا استثناء والذي يتوقع أن يصل الإنفاق العسكري الخليجي على الدفاع والتسليح إلى (83) مليار دولار بحلول (2015)؟!
تعلمت اليابان الدرس الذهبي بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الهزيمة (لماذا لم يتعلم العراق الدرس) التي لحقت بها نتيجة طموحاتها العسكرية، وقامت بفتح البلاد للشركات الأجنبية العالمية لإنشاء المصانع ومنحتها ميزات غير معهودة في مكافآت مالية، وقامت بتحويل جميع المصانع التي كانت تصنع المعدات والآليات الحربية إلى مصانع للسيارات والتقنيات الحديثة اتجهت الإدارة اليابانية إلى تخصيص ما لا يقل عن ثلاثة يابانيين للعمل مع كل خبير أجنبي يعملون معه حتى يتولوا العمل من بعده. ويعمل اليابانيون طبقا لتقرير بنك اليابان بمعدل 37.3 ساعة أسبوعيا مقارنة بالأمريكيين الذين يعملون 14.7 ساعة في نفس الفترة. يعتبر معدل البطالة في اليابان حتى بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة الأقل من بين نظرائها في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى وهي بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وايطاليا والولايات المتحدة. كما يقوم الشعب الياباني بادخار حوالي 35% من دخله، مقارنة مع الأوربي بحوالي 7% ، والشعب الأمريكي حوالي 3%. إلا أن الأرق يعتبر احد المشاكل الرئيسية في اليابان فهي "دولة لا تنام" حيث تعمل شركات عديدة على مدار الساعة. واليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي ابتكرت كلمتها الخاصة بها عن الموت نتيجة العمل الزائد وهي "كاروشي". ونشأت نتيجة لذلك صناعة بمليارات الدولارات في مشروبات الفيتامينات والأعشاب التي تمد الناس بالطاقة كما يشير تقرير نيويورك تايمز.
الدراسة التي قام بها (بيتر دراكر) في مجلة (Harward Business Review) أشارت إلى أربعة خصائص ساهمت في إحداث التقدم الذي أحرزه اليابانيون في مجال الإدارة والأعمال. (1) اتخاذ القرار بصورة جماعية: فخلافاً لما هو موجود في الغرب حيث أن القرار يتخذ في المستويات العليا ويتم أيضا بمشورة مجموعة صغيرة من المنفذين، فإن جميع الأفراد في اليابان يشتركون في مناقشة المشاريع واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها، فقبل أن تشرع الشركة على تنفيذ مشاريعها يقدم العاملون بدراسة المشروع بصورة كاملة، حتى بدون أن يعرفوا رأي الإدارة فيه، فهم يبحثون في المشاكل التي قد تعيق تنفيذ المشروع وطرق معالجتها, ولا يبدأون بالعمل إلا بعد أن يحيطوا بالمشروع إحاطة تامة وكاملة فعند التنفيذ سيجدون سهولة في إنجاز المشروع، ويجدون القدرة على حل أية معضلة قد تعترض سبيلهم لأنهم قد درسوا كل الاحتمالات ووضعوا الحلول اللازمة لها. وبناءً على ذلك فإنّ أي تعثر في العمل لا يحدث نتيجة لهذا العامل المهم الذي يعطي العاملين فكرة مفصلة عن عملهم، وعن مشكلات العمل المختلفة.
(2) التوظيف مدى الحياة: أغلب الموظفين والعاملين في اليابان يعيّنون في وظائفهم مدى العمر، كما وأنّ مرتباتهم الشهرية تعطى لهم على أساس سنين الخبرة. فمرتباتهم تتضاعف كل (15) عاماً، كما وإنهم يصلون سنّ التقاعد عندما يبلغون الخامسة والخمسين من العمر، وعندما تكون المؤسسة في حاجة إلى خدماتهم فإنهم يبقون في الخدمة فيمنحون حينذاك ثلثي راتبهم الشهري فالوصول إلى درجة المدير لا يحصل إلا لمن بلغ سن 45 سنة. وعندما يدخل الوظيفة يشعر بأنه باق فيها إلى آخر حياته العملية، ولهذه الحالة الإدارية تأثير كبير على عمله وحياته في داخل المؤسسة، فهي تزيل عنه مخاوف البطالة، كما وأنّ جل تفكيره وعبقريته سيصب في عمله الذي سيستمر معه فينجم عن ذلك تفاعل العامل مع عمله وإبداعه فيه وتخزين تجربته في الميدان الذي يعمل فيه.فلا يحدث مثلاً انتقال المدير إلى مكان آخر إلا في النادر لأنّ ما يحصل عليه في المؤسسة من مكافآت يبرر عدم انتقاله إلى مكان آخر.
(3) التعليم والتدريب المستمران: يتلقى العاملون اليابانيون سواء كانوا موظفين أو عمالاً أو مدراء التعليم المتواصل والتدريب اللازم للعمل الذي ينجزونه طيلة بقائهم في المؤسسة. فالتعليم والتدريب المتواصلان يرفعان من مستوى أداء العامل الياباني والذي ينجم عنه زيادة في الإنتاج وتقدم في نوعية المنتج. والملاحظ أن الدول الأوربية تستعين بالتعليم والتدريب في المؤسسة لكن حين انتقال الموظف من درجة إلى درجة أعلى، أو عندما يريد الانتقال من وظيفة لأخرى. الموظفون اليابانيون أيضا يتعلمون مهارات فن التعامل مع الآخرين ويتعلمون الأفكار اليابانية التقليدية مثل مكانة الفرد في المجتمع، فنجد أن صاحب العمل والموظف المستجد يستثمران في التدريب بغية تعزيز قيمة علاقة الفرد بالعمل.
(4) الإدارة الأبّوية: إحدى وظائف المدراء في اليابان تربية و إعداد مدراء المستقبل، فكل المدراء يجب أن يشرعوا في المستويات الدنيا ثم يتسلقوا السلالم الإدارية حتى يصلوا القمة ليصبحوا مدراء للمؤسسة لهذا فإن الشهادات الجامعية العالية لا معنى لها في اليابان، فالفرد يتعلّم في الجامعة، ولا عجب أن يكون رئيس وزراء اليابان السابق (تاناكا) حاصلاً على الشهادة القانونية العامة فقط؟! في السنين العشرة الأولى من العمل يقوم الموظف بانجاز الأعمال الإدارية غير الرسمية فيصبح مديراً غير رسمي، أي أنه يقوم بأعمال الإدارة تحت إشراف المدير، فيسمع شكاوى الموظفين، وله صلاحية نقل الموظف من مكان لآخر، كما وأنه يقوم بإعطاء الموظف درجة أعلى ليصبح بالمستوى الذي يناسبه. ومن ابرز سمات (الإدارة الأبوية) التعامل الأبوي للمدير مع عماله وموظفيه، فهو يتعامل معهم كما يتعامل الأب مع أبنائه فيشملهم بعطفه، حتى أنه يساهم في حل مشكلاتهم العائلية كالزواج وما شابه ذلك، ومشاركتهم حتى في اختيار الزوجة المناسبة. وهناك مثال مميز يدل على مدى الروح العائلية التي تتمتع بها الإدارة اليابانية ففي بداية السبعينيات تعرضت شركة (مازدا) إلى خسائر كبيرة وتراجع في الأرباح مما قد أدى إلى عجز في الموازنة وهددت في تعرض الشركة إلى الإفلاس فمكان من الموظفون والمدراء في شركة إلا أن يقفوا مع شركتهم ويتحملوا قسط من هذه الخسارة ويتنازل عن 50% من رواتبهم ومكافئاتهم. وفي شركة أخرى وهي برانيف للطيران تعرضت لنفس الموقف بعدها بعشر سنوات و قام موظفو الشركة على اقتطاع 90% من رواتبهم لسد العجز في الشركة!
نظرية زي (Theory Z) التي ابتكرها العالم الياباني وليم أوشي، تتوافق مع ما طرحه ( دراكر) وهي تشير إلى أن المشاركة في الإدارة تساعد على تحقيق الترابط الوثيق بين جميع الأعضاء. وبالتالي تكون عملية الاتصالات واتخاذ القرارات داخل المنظمة أكثر سهولة وفاعلية. بالمقارنة مع عالمنا من الواضح أن مفهوم الإدارة في الدول العربية ابعد ما يكون عن نموذج الإدارة اليابانية من بداية إدارة الدولة إلى اصغر مدرسة وحتى إدارة بيت؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق