الأحد، 20 فبراير 2011

النهضة لماذا تقدمت اليابان وتخلفت بلاد العربان

الأحد 20 فبراير 2011
اليابان بعيون عربية (4)
جريدة الشرق

أينما تولي وجهك شطر المشرق أو المغرب في بلاد الشمس المشرقة، سيظل يلاحقك سؤال النهضة لماذا تقدمت اليابان وتخلف العرب بدون أن تجد إجابة تشفي غليلك؟! لقد ظل هذا السؤال يلاحقني في كل ركن و زاوية تنقلت فيها بالمدن اليابانية في طوكيو، كيوتو، هيروشيما، وناكازاكي. على الرغم القراءة والاطلاع على العديد من الآراء والأطروحات والمقالات التي تشرح الأسباب والعلل المختلفة في عالم العربان من قبل اليساريين والعلمانيين والقوميين والاسلامين، ألا أن السؤال ما يزل يتداول ويثير الحيرة ويستعصى على الفهم والتعلم من عوامل التقدم و النهوض في التجربة التنويرية والحداثية اليابانية في العالم العربي. كيف استطاعت اليابان أن تغيير من وجهها البائس القديم في حقبة ما قبل الحرب وما بعد والتي قتل خلالها مليونا مواطن وحقبة ما بعد إلقاء أول قنبلتين نوويتين عليها والتي أدت إلى هلاك أكثر من 300 ألف ياباني؟ كيف استطاعت هذه البلاد المتواضعة أن تنهض من كبوتها وتقود التغيير والنمو وتنجح فيهما وهي المعروفة بفقرها الشديد في الموارد الأساسية والمواد الخام وحاجتها الملحة للطاقة؟!
الحديث حول النهضة ومتطلباتها يدفعنا إلى توزيع الأطروحات على فريقين كما يشير فيصل جلول، الفريق الأول يركز على تعلقه بأمجاد الماضي: الأندلس. الاختراعات العربية الإسلامية في الكثير من المجالات. السيطرة على أكثر من نصف العالم خلال العهود الأموية والعباسية والعثمانية وخلق مناخات تعايش وتعدد غير مسبوقة في التاريخ. والتمسك بـ"نظرية المؤامرة" للرد على التخلف الراهن. والتذرع باسرائيل في كل شاردة وواردة. الشكوى من وأمريكا والاستعمار. وتبني إيديولوجيات شمولية كالقومية والاشتراكية والدينية. أما الفريق الآخر فهو يعتمد على التبعية في التجربة الغربية والسير على رسمه. واعتماد الأمثلة اليابانية والهندية والنمور الأسيوية. وتبني مفاهيم العولمة والليبرالية والحداثة. ورفع شعارات المعاصرة والواقعية...الخ.
في النهضة اليابانية ومقارنتها بالعربية وهي مجال بحثنا، يرصد الدكتور مسعود ضاهر وهو احد المتخصصين في دراسة التجربة اليابانية في العالم العربي، أن رؤية العرب لليابان مشوشة، فهناك النظرة المفتونة ـ والفتنة حجاب ـ بالنهضة اليابانيّة التي ترفعها إلى مصاف المعجزة فلا معجزات في نهوض الأمم وسقوطها، وبناء عليه يفترض بالدرس التاريخي والموضوعي أن يلتمس الأسباب الحقيقية لا أن يقع فريسة التفسير الغيبي. النظرة السلبية التي لا ترى في ما قدّمته اليابان ما يغري إذ ينظر البعض اليها على أنها مجرد لصّاً تكنولوجيا يسطو على ثمرات أفكار الغرب ويعاود تغليفها بأختام يابانية، وهي نظرة جائرة، لأنّ لليابان مسببات ذاتيّة أنتجت نهضتها عبر إصلاحات جذرية مسّت بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
يستعرض ضاهر مجموعة من أعمال المفكرين والمثقفين العرب والتي تدل على القراءة الإيديولوجية لليابان، وهي قراءة جعلت الاهتمام ينصبّ أكثر على النهضة الأولى، لأنّ النهضة الثانية التي بدأت بعد سقوط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي هي نهضة كانت رهينة السياسة الأمريكية، وكان من تأثير الصراع العربي الإسرائيلي ان أسقط اليابان الحديثة من الاعتبار العربي بحكم أن سياستها في الشرق الأوسط تسير أغلب الأحيان وفق رغبات السياسة الأمريكية. وينوه ضاهر إلى ان عددا من المفكّرين القوميّين العرب اكتفوا بقراءة نهضة اليابان الأولى وهي نهضة لا نكران في حسناتها، إلا أنها كانت نهضة محكومة بأيديولوجيا عسكريّة توسّعيّة، تمجّد القوّة التي أرهقت منطقة الشرق الأقصى بالحروب وأزهقت ملايين الأرواح الآسيوية، وهي النهضة التي انتهت مع سقوط القنابل الذرية الأمريكية. أما النهضة الثانية فكانت نهضة لمصلحة الإنسان وليس الجيش، نهضة سلمية أسقطت من استراتيجيتها الطموح العسكريّ، بل ان رؤساء الوزراء اليابانيين لا يكفّون كما يقول ضاهر عن الاعتذار للشعوب الآسيوية عمّا سبّبه جيش اليابان من فظائع تجاه شعوبهم. وهذه مسألة في غاية الأهمية لأنها، من ناحية، تشي بالروح اليابانية التي تنتقد تاريخها ولا تمجد أو تبرّر أخطاءه، ولأنّها، من ناحية ثانية، لا تريد ان تتخلّى عن جلدها الآسيويّ. وما فعلته اليابان تجاه ضحاياها السابقين لم تُقدمْ عليه أيّ دولة استعمارية غربيّة تجاه ضحاياها والشعوب التي استنزفت ناسها وخيراتها.
وعن أسباب إخفاق مشروع النهوض إلى اليوم في بلادنا، يذكر ضاهر أن الحداثيين كانت نظرتهم لتراثهم مغايرة تماماً لنظرة الحداثيين اليابانيين لتراثهم، فالحداثيّون العرب أو بعضهم كانوا يدعون إلى نسف جسور الماضي، ولقد ترجم هذا القول شعرياً على الأقل لدى شعراء كبار، أمّا الياباني فانه لا يزال إلى اليوم يمارس طقوسه الشعريّة بأدوات قديمة دون الاستهزاء ببحوره الشعرية. ويعتبر الكاتب أن مقولة الحداثة من أجل الأصالة والتراث هي شاغل اليابانيّ ولا بدّ للعربيّ من أنْ يطّلع على هذه التجربة الفريدة التي استطاعت أن تكون في قلب الحداثة دون ان تدير ظهرها لتراثها العريق. وما يميّز المجتمع اليابانيّ أيضاً ويمنحه القوة والتماسك هو القاعدة العريضة من الطبقة الوسطى التي تصل إلى حدود التسعين بالمائة، في حين أن الدول العربية تقلص حجم هذه الشريحة يوما بعد يوم لحساب الطبقات الفقيرة ممّا يؤدي إلى تعزيز الشروخات وتوطين الأزمات عبر تحديق الفوارق الاجتماعية بين الطبقات في العالم العربي بخلاف المجتمع الياباني. وعن الاهتمام العربي بتجربة الحداثة اليابانية يشير أن هناك عشرات الباحثين اليابانيين قد تخصصوا في دراسة مختلف جوانب العالم العربي. وفي حين يتزايد عدد اليابانيين في مراكز الأبحاث اليابانية فإن عدد الباحثين العرب الذين أتقنوا اللغة اليابانية ودرسوا نهضتها استناداً إلى وثائقها الأصلية ما زالت قليلاً جداً، كما أن معرفة المثقفين العرب لليابانيين، ليست سوى صدى للدراسات الأميركية والأوروبية عنها.
في النظر إلى المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها اليابان ومقارنتها بتاريخ المنطقة العربية نجد أن هناك عدة أسباب جعلت التقدم يكون من نصيب اليابان، استعرضها الدكتور مسعود ضاهر ايضا في كتاب سابق له بعنوان (النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج) اهمها: أولاً: مركزية دور القيادة السياسية في حركة التحديث, وهو دور لا يمكن تهميشة أو تحويله إلى شرائح أو لاعبين آخرين في المجتمع. ثانياً: حسم صراع القديم والجديد, مقارنة بين فشل تجربة محمد علي في كسر شوكة الطوائف والقبائل والقوميات المختلفة ودمجها في مشروع وطني (جيش موحد, أنظمة إدارية تنظم العلاقات وتتجاوز القديم), مقابل نجاح اليابان في تطوير نظم اجتماعية نقلت الجوانب الإيجابية من النظام القديم بسلاسة إلى مرحلة التحديث وتواءمت معها. ثالثاً: مخاطر تحديث الجيش على حساب تحديث المجتمع, ومثال تجربة محمد علي الذي بنى جيشاً قوياً وحديثاً استنفد موارد الدولة, في حين بقي المجتمع على حاله المفككة والضعيفة. رابعاً: الأثر الكبير لصيرورة انهيار الإمبراطوريات القديمة وصعود الدول القومية الحديثة وانعكاس ذلك على النهضة في البلدان المرتبطة بهذه التحولات. خامساً: تحليل عناصر عملية مواجهة التحدي الرأسمالي. سادسا: ضرورة ومركزية احترام الأصالة وحماية التراث والتأكيد على دور الموروث في إحداث عملية التحديث.
بيتر بافلكا أستاذ العلوم السياسية الألماني يشير إلى عدة عوامل ساعدت في نهوض اليابان أهمها التفاف الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة حول الإمبراطور و "المبادئ الخمسة" الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي والتحديث وإقامة حكم دستوري (1886)، إزالة الطبقات الاجتماعية القديمة وامتيازاتها وإعلان التعليم الإلزامي (1873) وتأسيس مجلس الشيوخ (1875) وإصلاح النظام الضرائبي، بالإضافة إلى تطوير مستوى العلوم والآداب والثقافة. كما ساعد موقع اليابان الجغرافي على تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وكذلك التماسك الداخلي وتوحيد البلاد, والتوجه الكامل نحو التحديث الاقتصادي بتأسيس شركات مالية وإدارات عصرية اعتمدت أساسا على موارد البلاد الداخلية ومن دون مساعدة من الخارج، وهو ما ساعد على تحويل اليابان إلى قوة اقتصادية عالمية قادرة على حماية اقتصادها وكذلك المشاركة في السوق العالمية بنشاط واسع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق