الأربعاء، 19 يناير 2011

تونس.. فهمناكم.. وصلت الرسالة من البطال والمحتاج والسياسي؟!

جريدة الشرق

2011-01-19

الانتفاضة التونسية تمثل شاهداً على بداية تاريخ التغيير في المنطقة
هل النموذج التونسي قابل للتصدير للدول الأخرى؟
الأزمة كانت امتحاناً قاسياً للقنوات الإخبارية العربية بلا استثناء

مثل الكثيرين لم أصدق عيني عندما رأيت الشعارات على شاشة محطة بي بي سي العالمية (BBC)، يسير بها المتظاهرون في الشوارع تطالب بالحرية، العدالة، الديمقراطية، ويرفعون صور "تشي جيفار" (Che Guevara) واعتقدت أنها دولة من دول أمريكا اللاتينية، ولما دققت النظر بتمعن رأيت الشعارات المرفوعة كتبت بالحروف الانجليزية والفرنسية ولكن أبرزها تلك المرسومة باللغة الفصحى، بالإضافة إلى مجموعة الرجال والنساء ذوي السحنة العربية التي تميزهم عن غيرهم من الشعوب، لا يوجد خطأ إذاً! لقد دقت الساعات الأولى في تونس، وبدأ تاريخ التغيير في المنطقة. والسؤال لماذا تأخر كل هذه العقود الطويلة المظلمة، وكم من الوقت سيأخذه لكي يصل إلى الآخرين؟! وكم سنفقد من أبرياء وشهداء وضحايا؟! ومن سيتحكم في مفاتيح السلطة ويقطب ثمارها صاحب البزة العسكرية، العباءة الدينية، البدلة الفرنسية، أو قميص الديمقراطية؟!.
هل المشهد بحاجة إلى دراسة سيكولوجية وانثروبولوجية معمقة؟! كيف استطاع أولاد الشوارع وهو الاسم الذي أطلقه البعض على المتظاهرين، وفي أيام معدودات من تغيير نظام شامل استمر إلى نصف قرن من بعد الاستقلال وفرض مبدأ توارث الحكم ومركزية القرار، مع أنها أنظمة قامت على مبادئ نظام الجمهورية المنتخبة الديمقراطية؟! ماذا حدث للقبضة الأمنية الحديدية القاتلة وجهاز المخابرات الحامي المنيع، والخوف والانهزام والانكسار الذي يسكن في داخل الإنسان الذي يعيش هناك وفي مختلف الدول العربية؟! أم أن الأمر لا يحتاج إلى كل ذلك بتاتا وليس أكثر من حاجز نفسي انكسر، فالسجون والمعتقلات مهما اتسعت مساحاتها وقويت قبضتها لن تستوعب سجن كل الشعب، ولا حتى المئات والآلاف التي تخرج في مظاهرة واحدة؟! هل كان يعرف ذاك الشاب الطالب الجامعي العاطل عن العمل في منطقة سيدي بوزيد (البوعزيزي)، انه بحرقه جسده، مع كل الفتاوى الدينية، والمذهبية، والسياسية، التي تدينه وتلعنه وتدخله جهنم من أوسع أبوابها، بأنه سيشعل شرارة التغيير بفعلته تلك؟ وهل يتكرر نفس السيناريو في عواصم أخرى؟ لقد جعلتنا الانتفاضة التونسية بكل تداعياتها نعيد التفكير في كل شئ، وفي كل المسلمات التي تعلمناها وعرفناها عن العالم العربي وشعوبه؟!
أسبوع واحد من التصريحات شبه اليومية عرفتنا بكيفية تفكير هؤلاء من الذين يعيشون في القمة ومدى اتساع الهوة التي تفصلهم عن الذين يسكنون في القاع، فبعد 23 سنة أقروا بأن الأمور لم تكن تجرى على هواهم، وأنها كانت تجري من خلف ظهورهم ولم يكن يعلمون بها. وأخذوا يستجدون الناس أن تغفر لهم وهم مستعدون لدفع الثمن من خلال التضحية بمن حولهم والقضاء عليهم جميعا فقط أن يبقوا هم في الحكم إلى نهاية الولاية التي فازوا بها بالتزوير؟! وفي سبيل سعيهم للبقاء في السلطة قدموا أنفسهم للغرب كبوابة فولاذية أو كذاك الجدار السميك في وجه فزاعة الإسلاميين في الحيلولة من وصولهم يوما إلى السلطة، وزمرة لمكافحة الإرهاب. لقد فهموا الرسالة التي وصلتهم متأخرة بعقود طويلة من القمع والتعذيب ومصادرة الحقوق. لقد اجمع المراقبون على فشل النموذج التونسي، الذي راهن على التقدم الاقتصادي على حساب الديمقراطية، وتوفير الحريات العامة، وحرية الصحافة، وكرامة المواطن. وهي رسالة موجهة لكل الأنظمة العربية بلااستثناء من ضرورة أخذ الدروس مما حدث من نموذج فرض الرأي والفكر والحزب الواحد المسيطر، والقبضة الأمنية على المواطنين، فالشعوب لا يمكن أن تصبر إلى ما لا نهاية، وإنما ستنفجر في يوم ما؟!
وثائق "ويكيليكس" الشهيرة، كانت حاضرة في الأزمة التونسية وبقوة، وسببت في إغلاق المئات من المواقع الإلكترونية من قبل أجهزة الاستخبارات، وقد كشفت التقارير الصادرة بأن النظام لم يعد يقبل النصائح لا الداخلية ولا الخارجية، وأنه لا يتعاطى مع الوصفات الدولية لتوفير الحد الأدنى من الإصلاح. وأشارت إلى أن النظام لا يقبل مناقشة مسألة خلافة الرئيس المتغيب المتقدم في السن، والذي لم يجهز بديلا أو نائبا له، ويحكم البلاد المتعثر سياسيا واقتصاديا بقبضة أمنية تنذر بمخاطر بعيدة المدى، وهو يحيط نفسه بمافيا خطيرة تجمع أقارب ومستشارين وجنرالات ورجال أعمال، يشكلون عنوان الفساد السياسي والمالي في الدولة التي تقوم بقمع جميع أصوات المعارضة وحركات الإصلاح السياسي. ولعبت زوجة الرئيس دورا كبيرا في ترسيخ النظام الديكتاتوري وهي قامت باغتصاب ملكية العديد من الشركات والمشاريع الاقتصادية الناجحة، وقامت بزرع العديد من القيادات السياسية والأمنية في مناصب عليا في حلقات القرار، بالإضافة الى ونفوذها وتسلطها على القرار السياسي، وامتلاكها للقرار في المراحل التي يغيب فيها الرئيس عن المشهد اليومي بسبب نوبات المرض الغامض الذي لم تتسرب تفاصيله إلى وسائل الإعلام؟! أليس هذا السيناريو قريباً ومشابهاً لدول عربية أخرى؟!
الأزمة كانت امتحانا قاسيا للقنوات الإخبارية العربية بلا استثناء التي حاولت أن تمسك العصا من النصف وتجاري الأحداث وتلاحقها ولا تصنعها وتدعي البطولة من خلال الظهور في الصورة عن طريق العرض والتغطية بعد أن تنتهي آلام المخاض. واقع تغطية المحطات العربية يراهن على اختيار المنتصر في المعركة وغالبا ما يكون النظام والسلطة، إلا أن النموذج التونسي قلب الأوضاع رأسا على عقب وفرض واقعا مغايرا في عالم العربان وللمرة الأولى. خيبة الإعلام العربي تظهر في وقت الاختبارات فهو ينكشف بسهولة رغم الأكليشيهات والشعارات الفضفاضة من عرض الرأي والرأي الآخر. هذه القنوات والمحطات تعرض الآراء ولا تعرف كيف تتعامل مع الحقائق، ونحمد الباري أننا نملك لغة أخرى في التخاطب نستطيع أن نفهم ونعرف من خلالها ما يجرى في عالمنا من أطراف ومصادر مستقلة وحيادية وبعيدة عن الأجواء الايديولوجية والأجندات الخاصة. العولمة وأدواتها الاتصالية الإعلامية شاركت في البطولة عن قرب وعن بعد. ورغم قرارات المصادرة والمنع والقمع والإغلاق والحجب استطاعت المنتديات والمواقع الشخصية (البلوجز) والمواقع العالمية (فيس بوك)، (تويتي)، (يوتيوب) بالإضافة إلى كاميرات الهواتف النقالة، أن تنقل الأحداث والصور والوقائع ومقاطع الفيديو، من قلب الأزمة وعلم بها القاصي والداني في جميع أنحاء العالم؟! وحسب موقع "بيكريرز الاجتماعي"، فإن عدد التونسيين الذين استعملوا فيسبوك خلال فترة عرفت بذروة الأحداث تجاوز المليوني مستخدم يوميا بعد أن كان في حدود المليون و790 ألفا قبل الاحتجاجات.
لقد استجاب القدر للشعب التونسي الذي أراد الحياة كما صدح بها شاعر الانتفاضة الحاضر الغائب ابو القاسم الشابي ويحق للشعب التونسي أن يفتخر لأنه استطاع فرض التغيير من دون مساعدة جهات خارجية أو داخلية، انه حدث مجلجل ولن تصبح الدول العربية كما كانت قبل التغيير. التاريخ العربي فرض واقعا مغايرا اليوم، فهانحن نؤرخ إلى ما قبل الأحداث التونسية وما بعدها. إن الشعب التونسي صنع تاريخا جديدا لعالم العرب فهل يصبح نموذجا قابلا للتصدير؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق