الثلاثاء، 11 يناير 2011

التعايش المسيحي - الإسلامي.. لوحة الفسيفساء الناقصة

جريدة الشرق
2011-01-12

القبول بالآخر يتعرض لضربات موجعة في الكثير من العواصم العربية
مشاكل خطيرة متمثلة في التمييز والتعصب وانتهاك حقوق الأقليات الدينية
لا نريد أن نتجاهل الجزء الممتلئ من الكأس ولو كان قليلا

اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، اللهم يتم أطفالهم ورمل نساءهم، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم أهلكهم كما أهلكت عادا وثمود، وأقم الصلاة.. كان هذا الدعاء هو خاتمة خطبة الجمعة التي حضرناها قبل مغادرة مدينة تامبا (Tampa) ولاية فلوريدا الأمريكية، وألقاها خطيب من أصول عربية مغربية، ودارت حول التعامل مع اليهود والنصارى والاحتفال بأعيادهم، والمسجد يقع في منطقة اغلب سكانها من البروتستنت واليهود وأصحاب الديانات الأخرى. دعاء مشابه ختم به خطيب مسجد ليستر (Leicester) في بريطانيا، في خطبة الجمعة في الاحتفال بأعياد الميلاد قبل نهاية سنة 2010، وهو من أصول آسيوية (هندية — باكستانية) والمسجد يقع بالقرب من أشهر كنيسة في المدينة كان لها الفضل في تبني حوار بين الأديان السماوية في محاولة لفهم الآخر وتقريب وجهات النظر على رأسها الإسلام، ونفس الدعاء استمع إليه كلما زرت الأهل والأقرباء في بعض المدن الخليجية في الرياض والمنامة والدوحة.. فهل نستغرب بعد كل هذا الأجواء الملغومة والثقافة السياسية المعادية والتعبئة النفسية والعاطفية التاريخية المستمرة في عالمنا من أن يقوم شخص ما في مكان معين ويترجم دعاء بعض امة المساجد ومعه دعوات المصلين "أمين" إلى واقع ويقوم بتفجير نفسه ويزلزل الأرض من تحت إقدامهم؟! وهل حقا بحاجة أن تقوم منظمة القاعدة وجنودها بالمهمة في عالم يعيش فوق بحيرات وبرك "الكيروسين" القابلة للاشتعال والكل يحمل ثقاب كبريت في يده؟ البرك القابلة للاشتعال بدأت تتفجر في العراق ووصلت إلى مصر والمحطة القادمة هي بيروت؟! ولن يتوقف هذا الكابوس الكئيب عند انفجار سيارة مفخخة خارج كنيسة مصرية تاركة وراءها 20 قتيلا، وقيام فريق من المسلحين التابعين للقاعدة بقتل عشرات الأشخاص في كنيسة ببغداد، فالتعايش الإسلامي — المسيحي والتسامح والقبول بالآخر الذي شكل منذ قرون نموذجا مميزا فريدا يتعرض لضربات موجعة في الكثير من العواصم العربية.
حتى في اشد مراحل التاريخ ظلامية ودموية كان التعدي والاعتداء على الآخر المخالف في العقيدة وخصوصا المسيحي يعتبر منطقة محرمة الاقتراب منها، ويذكر التاريخ "الطبري" حادثة الخوارج الذين وجدوا رجلا فعرضوا له يسألونه: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم، فسألوه عن علي، فأجابهم بالحق فقالوا له: كفرت يا عدو الله، ثم حملوا عليه فقطعوه قطعا وأشلاء متناثرة. ووجدوا معه رجلا من أهل الذمة فقالوا: ما أنت؟ قال: رجل من أهل الذمة، قالوا: أما هذا فلا سبيل عليه. وحادثة أخرى حينما نزل التتار دمشق وعاثوا في الأرض فسادا وأسروا من أسروا فيها من مسلمين وأهل كتاب أرسل السلطان قلاوون إليهم الإمام ابن تيمية ليفاوضهم في إطلاق سراح الأسرى عرضوا عليه أن يطلقوا له سراح الأسرى من المسلمين فقط فأجابهم الإمام ابن تيمية قائلا: "أهل ذمتنا قبل أهل ملتنا".
لقد شكلت أعداد الأقليات المسيحية العربية في بداية القرن العشرين 20 % من عدد سكان الشرق الأوسط إلا أن عددهم اليوم لا يتجاوز 12 مليون نسمة وهو يمثل 5 % من عدد السكان، وعلى الرغم من أن المسيحيين لعبوا أدوارا مهمة في مجالي النضال القومي والثقافة وفي الحركات اليسارية المعادية للاستعمار في العقود المبكرة من القرن العشرين كما ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز (Los Angeles Times)، فإن ما يقرب من نصف مليون مسيحي في العراق قد هربوا من البلد منذ بدء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وبغياب ملاذات آمنة أو ميليشيا لحمايتهم، وجد المسيحيون العراقيون أنفسهم واقعين بين المصادمات العربية — الكردية والشيعية — السنية، إضافة إلى الهجمات المباشرة ضدهم على يد القاعدة والآن أصبح عددهم لا يزيد على 3 % من عدد السكان، أما الوسط المسيحي القبطي في مصر والذي يشكل 10 % من عدد سكان مصر فإنه الآخر يعاني من التمييز والعداء المفتوح من قبل الحركات الإسلامية المتطرفة.
وفي السودان ظلت الحكومة في حالة حرب مع الجنوب ذي الأكثرية المسيحية لعقود، وهبط عدد المسيحيين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون 15 % من عدد السكان في فلسطين في بداية الخمسينيات من القرن الماضي إلى 1 % اليوم، وهم دفعوا لمغادرة الأراضي الفلسطينية مع زيادة قسوة شروط الاحتلال وتصاعد سلطة حزام والإسلام المتشدد. وفي سوريا يشكل المسيحيون 10 % من عدد السكان وتحققت حماية لهم تحت حكم الدولة إلا ان العدد راح يتقلص تدريجيا، وكان لبنان البلد الوحيد الذي يشكل المسيحيون الأكثرية بين كل البلدان العربية الأخرى ومع اندلاع حرب أهلية ما بين عامي 1975 و1990 غادر الكثير من المسيحيين لبنان إلى الخارج، لقد أشارت التقارير الدولية إلى أن هناك مشاكل خطيرة مازالت منتشرة في بعض الدول العربية متمثلة في التمييز والتعصب وانتهاك حقوق الأقليات الدينية، وتطرقت إلى مجموعة من أحداث العنف والتمييز ضد المسيحيين أو الأقليات الدينية الأخرى لم تتخذ الحكومات الخطوات الكافية لوقف أعمال القمع أو حتى معاقبة المسؤولين عنها وعن الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات الدينية.
ومع ذلك لا نريد أن نقفز ونتجاهل الجزء الممتلئ من الكأس ولو كان قليلا، وأهمها الوعي بخطورة الوضع واتخاذ المواقف الرافضة والمستنكرة للعنف والإرهاب والمشاركة والمساهمة في وقفه والحماية من انتشاره، لقد أعلنت أكبر ثلاث منظمات إسلامية في هولندا عن عزمها حماية الكنائس القبطية هناك، بعد تهديدات عناصر إرهابية بشن هجمات عليها. وعملت مجموعة من النساء المسلمات في هولندا على إقامة وقفة تضامنية تجمع مسلمين ومسيحيين بروتستنت مع المسيحيين المصريين، والصلاة التي جمعت بين الإمام فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية والدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف وقداسة البابا شنودة في الكاتدرائية بالعباسية، والدعوة إلى قيام لجنة واحدة من الأزهر والكنيسة لحل أي خلافات تحدث بين المسلمين والمسيحيين.. حتى صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post)، أشادت في مقالها الافتتاحي،، بروح الإسلام المعتدلة التي ساهمت بشكل ما في حماية الكنائس القبطية، للاحتفال بعيد الميلاد المجيد، وقالت إن الآلاف من المصريين توجهوا للمساعدة في حماية كنائس مصر بأجسامهم بعد التفجيرات البشعة التي هزت الإسكندرية وكنيسة القديسين. وربما من أروع النماذج التي تستحق الاعتزاز والتقدير هي المتمثلة بالتعايش بين العائلات المسيحية والعائلات المسلمة جنبا الى جنب في فلسطين من محبة وتآخ وعادات وتقاليد اجتماعية واحدة، تعايش فريد رغم الاختلال العقائدي والديني والاحتلال والعدوان والحصار وتهديم البيوت والاعتداء، من خلال التعاون والتعاضد والتكاتف والإيمان بمستقبل أفضل من الماضي والحاضر، انها لوحة فسيفساء جميلة أتمنى أن تنتشر في العالم العربي.
ودعونا نختم بدعاء كما بدأنا به "اللهم اجمع شملنا وشملهم، ووحد صفوفنا وصفوفهم، وأحفظ أطفالنا وأطفالهم" اللهم أمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق