السبت، 15 يناير 2011

اليابان بعيون عربية "1"

جريدة الشرق
2011-01-16

غمرتني الفرحة عندما تم إبلاغي بالموافقة على اختياري في برنامج الدراسات الدولية للأبحاث في طوكيو من آلاف الطلبات المقدمة من مختلف أنحاء العالم، للقيام بالبحوث والجولات العلمية في المدارس والجامعات والمؤسسات الأكاديمية، للتعرف والاطلاع ودراسة المنظومة اليابانية التعليمية والبحث العلمي. لقد حزمت حقائبي منذ زمن طويل وكنت أنتظر الفرصة الذهبية التي تتيح لي التعمق في زيارة ودراسة المجتمع الياباني وتاريخه وخصائصه وتجربته التنموية والنهضوية، ورغم الدعوات المختلفة ترددت في السفر إلى بلاد الشمس المشرقة كسائح أو صحفي يكتب انطباعات عامة أشبه بتلك الشخصية التي تعيش في الريف وتذهب في زيارة إلى المدينة، أو مثل من يعيش في بيت من الطين ويتم أخذه في جولة سياحية داخل قصر، أشبه بما فعله مقدم برنامج خواطر في المحطة العربية (MBC).
وأعترف أنه رغم تجربة الدراسة والانتقال ما بين الولايات المتحدة وأوروبا ما زلت أحمل في داخلي بعضا من تلك الأسئلة، على شاكلة لماذا تقدمت اليابان وتأخرت الدول العربية دون استثناء رغم أن أم الدنيا مصر كانت سابقة في تجربتها التنموية على سبيل المثال؟ وكيف استطاعت العقول اليابانية أن تعصف بالاقتصاد الخليجي في الكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان والسعودية، وتنهي منظومة حقبة كاملة سياسية واقتصادية واجتماعية قامت وتشكلت وترعرعت على مهنة استخراج اللؤلؤ قبل الدخول في عصر النفط ومشتقاته؟! وكيف تعاملت مع تجربة القنبلة النووية وخرجت من رحم الهزيمة العسكرية والاحتلال في الحرب العالمية الثانية منتصرة لتصبح في المركز الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة الأمريكية إلى العام الماضي بعدما تراجعت لحساب الصين، بينما يعجز الجار العراقي من عام 2003 إلى اليوم من وضع اللبنات الأولى لبناء دولة حديثة؟!
لقد أتاحت لي هذه الزيارة الاطلاع على كتب ودراسات ومقالات عديد غربية وشرقية عن التجربة اليابانية، وزودتني بمعلومات مفصلة وغزيرة وحقائق تاريخية ومعاصرة وأرقام وإحصاءات عديدة مبهرة عن هذا البلد الفريد والشعب الرائع الذي لا يكاد أن تجد له نظيرا في العالم، ولا أدعي أني تيقنت أنه إذا قدر للعالم أن يكتشف كوكبا قابلا للحياة بديلا لكوكب الأرض يستطيع الإنسان أن يعيش فيه، فيجب أن تسند المهام الأولى في التنظيم والإشراف والإدارة ووضع اللوائح والقوانين والتشريعات والقواعد المدونات السلوكية إلى الشعب الياباني.
الرحلة لها مذاقها الخاص منذ بداية الانطلاق فخط الرحلة أصبح مباشرا بعد أن كان متقطعا في السابق، حيث يضطر المسافر إلى تبديل الطائرة في إحدى الدول الآسيوية القريبة مثل تايلاند أو الانتظار في الطائرة ليكمل الرحلة بعدها. كما تحولت اللغة العربية والإنجليزية إلى لغات أجنبية غريبة، يتم التعامل مع المتحدث بها عن طريق لغة الإشارات البدائية وتكون في معظم الأحيان عصية على الاستيعاب والفهم. واختفت الأشواك والسكاكين من قائمة الأكل وحلت محلها (العصي والعيدان) وكان البديل لها المعلقة البلاستيك التي تحمل أسنانا في مقدمتها ويمكن استخدامها لاحتساء الشوربة وأكل الأرز في الوقت نفسه كما يفعل الأطفال في المرحلة الأولى في المدارس. ومن نافذة الطائرة عند الاقتراب من الوصول، كانت الدهشة تأسر القلب في النظر إلى الجزر المتناثرة والمعزولة ذات الطبيعة الجبلية والتي تقدر بثلاثة آلاف جزيرة ونيف بحيث إذا جمعتها مع بعضها البعض تكونت لك بلاد (نِيپّـونْ نِيهُونْ) وهي التسمية التي يطلقها اليابانيون على بلدهم وتعني "منشأ الشمس" أو "أرض الشمس المشرقة". تذكر الموسوعة العالمية أن الاسم استمد من الصين وأول ذكر لليابان في كتب التاريخ الأوروبية يعود لعام 1577 تحت اسم غيابان (Giapan)، وقد ذكر ماركو بولو اليابان في كتاباته تحت اسم "سيبانغو"، وعندما وصلت أولى البعثات التبشيرية البرتغالية إلى اليابان في القرن السادس عشر، تبنى البرتغاليون اسم "جيبون" وهو اسم منحول من الاسم الياباني نيبّون. وهناك فرضية غير مؤكدة كعادة العرب القائمة على النقل من فلان عن علان تقول إن أول ذكر لليابان في المصادر العربية يعود إلى خريطة العالم التي رسمها العالم العربي أبو عبد الله محمد الإدريسي (الشريف الإدريسي) في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث توضح خريطة الإدريسي وجود مجموعة من الجزر باللون الذهبي في القسم العلوي اليساري من الخارطة مقابل سواحل إفريقيا وجنوب شرق آسيا أطلق عليها اسم "الواق واق"، وهذا الاسم تم وضعه من قبل الرحالة العربي ابن بطوطة الذي استمده من اللفظ الصيني "واكوكو".
أما بالنسبة للاسم الحالي "اليابان" فهو مأخوذ من البرتغالية، وقد حور العرب الحرف الأول "J" إلى "ي" ليصبح اللفظ على ما هو عليه حاليا (اليابان).
باءت محاولاتي بالفشل في البحث عن قامة جبل فوجي أجمل الجبال في العالم وأشهرها على الإطلاق ويبلغ ارتفاعه 3.776 مترا، ويعتبره اليابانيون جبلا مقدسا منذ القدم، وكان يحظر على النساء الاقتراب منه. وعندما سألت المضيفة عن مكانه قالت لي بعد جهد جهيد إنه يجب عليك أن تزور الجبل وتراه عن قرب وليس من نافذة الطائرة فهو له هيبة مقدسة مثل طلة الإمبراطور أو ربما هذا ما فهمته من إشاراتها وإيماءتها، وهي لم تفهم سر تهكمي عندما مازحتها بأغنية أنغام (كأن بطلتك هيبة كما هيبة ملك). لم تكن الرحلة مباشرة إلى مطار ناريتا (Narita International Airport) في طوكيو كما ظننا، وتوقفت في مطار أوساكا (Ōsaka)، لمدة 35 دقيقة بالضبط دون تقديم أو تأخير، وهو شيء لا نستطيع أن نستوعبه في العالم العربي أو في أمريكا اللاتينية. فماذا يعني تأخير عشر دقائق أو ربع أو نصف أو حتى ساعة فلن تقوم القيامة، لكنها في اليابان تقوم، وقد تكلف غاليا، ويمكن أن تخسر مواعيد الرحلة وتفقد الحجوزات في المطارات والقطارات ومواعيد العمل والمواعيد الشخصية، إذا تأخرت في الدقائق الخمس الأولى وربما هو أول درس يتعلمه القادم إلى اليابان.
وصلنا إلى محطتنا الأخيرة وتم استقبالنا والذهاب إلى السكن الذي يقع في مقر الجامعة وهو مخصص للباحثين الدوليين من خارج اليابان، وقد صدمت في مشاهدة الغرفة التي تشبه الكبسولة لكن الغريبة أن كل ما يحتاجه الإنسان في غرفته العادية موجود. لله دركم أيها اليابانيون فعلا لقد فكروا في كل شيء ولم يتركوا أي شيء يسير عبثا دون تخطيط مسبق. هل من الممكن أن تكون هذه الغرف هي الحل لأزمة السكن في الدول العربية الكبيرة القاهرة والخرطوم ومراكش والجزائر ودمشق وعمان، سؤال طرحته على نفسي، وتذكرت ساعتها أننا سبقنا اليابان بالتفكير وتجاوزناها بمراحل فهناك الملايين ينامون فوق الأضرحة وداخل المقابر (وهي أصغر من الغرف اليابانية بكثير) في أكبر عواصم وأحياء الدول العربية، وفي دراسته الأخيرة أشار تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن 1.5 مليون مصري يعيشون في المقابر. (يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق