السبت، 21 أغسطس 2010

عام الفجيعة الثقافية في العالم العربي

2010-08-21

حزن على رحيل المفكرين والمثقفين والشعراء والأدباء العرب
غازي القصيبي شكل علامة فارقة في سماء الأدب الخليجي والعربي

خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري
عندما انتهينا من قراءة قصيدة "حديقة الغروب" قبل عدة سنوات تقارب الخمس، عرفنا حينها أنها كلمات رجل مقبل على الرحيل يلخص مسيرة حياته في بضعة أبيات؟ وهو في صراعه بين الموت والحياة خلال السنوات الماضية إلى الوقت الحاضر لم يتسن له حتى مشاهدة وصيته الأخيرة التي خطها في روايته "الزهايمر" التي من المقرر صدورها من المطبعة نهاية الأسبوع الحالي! وفيها يسعى البطل في رسائله من (أرض الماضي المحروقة) إلى الاعتذار لزوجته عن الكذبة التي اختلقها قصداً ليبرّر سفره للعلاج وكأنّه على يقين أنه لن يعود إلا جثة. والزوجة لن تكتشف هذه الكذبة البيضاء إلا بعد وصول الجثة والرسائل، فهي كانت تظن أنه في رحلة عمل طويلة، وهذه كانت هي الحالة التي عاشها غازي القصيبي معنا قبل رحيله.
انه عام الفجيعة الثقافية في العالم العربي برحيل عدد من المفكرين والمثقفين والشعراء والأدباء العرب الذين اثروا الساحة الفكرية والثقافية من مصر والمغرب العربي مرورا بسوريا الى الخليج من الكويت واليمن إلى السعودية، المفكر محمد عابد الجابري، برهان البخاري، محمود السعدنى، الطاهر وطار، نصر حامد أبو زيد، أحمد البغدادي والشاعر أحمد السقاف، وأخرهم الأديب والوزير الدكتور غازي القصيبي (1940 — 2010)، بعد صراع مرير مع المرض. والغريب أن أغلب هؤلاء الكبار لم يسلموا من محاربة أعمالهم وتكفير إنتاجهم وتجريحهم واتهامهم والهجوم الشخصي عليهم ولا كرامة لنبي في وطنه!
غازي القصيبي تولى عددا من المهام الحكومية والدبلوماسية والوزارية حتى رحيله، إلا أن المشهد الثقافي الخليجي يحتفظ لفقيد الأدب والثقافة بمكانة خاصة؛ إذ تعد إسهامات الفقيد الراحل في حقول فنون الشعر والأدب والقصة، علامة فارقة في سماء الأدب الخليجي والعربي. عُرف عن القصيبي حبه لكل التراب الخليجي وانشغال قصائده بقضايا المنطقة وهمومها التي لا تنتهي، كما أن له العديد من الإصدارات في هذا الجانب، منها كتاب "صوت من الخليج" الذي يحوي مجموعة مقالات نشرت تباعاً في 'المجلة العربية وكذلك كتاب "الخليج يتحدث شعراً ونثراً" الذي يحوي نبذة عن أشهر الشعراء والكتاب الخليجيين. شكلت كتاباته (هو وغيره) عن الثقافة في الخليج ردا على الغوغائية التي ما فتأت تنعت الصحف والمجلات والمحطات العربية الممولة من دول الخليج العربي بإعلام (البترودولار). وتشير الى أنه لا أدب لهؤلاء ولا رواية ولا شعر سوى ما يخلعه عليهم المنتفعون من المرتزقة يجاملونهم لبترولهم ودولاراتهم!
لا يخفي أبناء جيلي في الخليج من أن وعينا الفكري والسياسي والثقافي بالتحديد تفتح وتشكل بعد حرب الخليج الثانية "غزو الكويت" لقد كانت اللحظة التي طرحنا فيها الأسئلة الكبيرة على أنفسنا وخضنا فيها معركة المراجعات في منطقة ألا مفكر فيه وغير المسموح التفكير فيه، لكل الأطروحات والتصورات والمسلمات التي صبت في عقولنا كقوالب جاهزة دون تمعن وتفكير وتمحيص وروية. كانت كتابات أمثال الدكتور احمد الربعي وغازي القصيبي ملهمة لنا، وما أزل احتفظ ببعض القصاصات الصحفية لمجموعة من مقالات القصيبي الصحفية منها "في عين العاصفة" التي نُشرَت في جريدة الشرق الأوسط إبان حرب الخليج الثانية ورده على هجوم سلمان العودة وعائض القرني وناصر العمر، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في مثل "حياة في الإدارة" و"التنمية، الأسئلة الكبرى" و"عن هذا وذاك" و"باي باي لندن" و"الأسطورة، ديانا" و"أقوالي غير المأثورة" و"ثورة في السنة النبوية" و"حتى لا تكون فتنة. واذكر قصيدته الرائعة عن الكويت التي تبشر بالتحرير والحرية في عزّ الاحتلال والمصير المجهول (أقسمت يا كويت برب هذا البيت، سترجعين من خنادق الظلام، لؤلؤة رائعة كروعة السلام).
من أشهر أعمال القصيبي "شقة الحرية" و"العصفورية" و"دنسكو" و"أبو شلاخ البرمائي" و"سبعة" و"سعادة السفير" و"الجنيّة و"معركة بلا راية" و"أشعار من جزائر اللؤلؤ" و"للشهداء" و"حديقة الغروب". وكانت «شقة الحرية» أولى رواياته التي شدتني بلهفة بالغة، وهي صدرت عام 1994، وتحكي واقع الشباب العربي خلال الفترة من (1948 الى 1967)، حيث يعيش أبطال الرواية في شقة في مدينة القاهرة، وسط أجواء فكرية وسياسية عاصفة بتوجهات فكرية مختلفة لكل منهم، وتكون لهم بطولاتهم الخاصة مع تلك الأحداث. وكانت الرواية ممنوعة في السعودية وبعض دول الخليج وهو ماجعلنا نصر أكثر على الحصول عليها وتداولها بين الزملاء بعد الانتهاء منها. وترسم روايته «سبعة» التي صدرت في عام 2003 صورة ساخرة للواقع العربي، ممثلة في سبع شخصيات تختلف في أفكارها وأعمالها وتتشابه في الركض خلف سيدة واحدة تعمل مقدمة لبرنامج تلفزيوني، إذ يقعون ضحية لها في نهاية المطاف، وهي رواية رمزية مميزة تحكي واقع العبودية والوهم الذي يعيشه الإنسان في العالم العربي!
يقول ميشيل فوكو "أحلم بالمثقف المحطم لليقينيات والمسلمات الكونية، المثقف الذي يتمكن رغم عطالة الحاضر وقيوده، من تشخيص نقاط الضعف، وينفذ إلى مخارج الخلاص، وخطوط القوة... المثقف الذي يزج نفسه بإقدام لا يعرف كيف ولا إلى أين، ولا يفكر بالغد لأنه مستغرق بالحاضر الثقيل). أمنية حبذا أن تتحقق عندنا في أن يتم تكريم هؤلاء المثقفين الكبار في احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010 قبل رحيلها من الدوحة في آخر السنة إلى عاصمة أخرى. ولا نملك إلا أن نودع هؤلاء الكبار الأموات الأحياء بقصيدة محمود درويش التي يقول فيها
(بوركت الحياة، وبورك الأحياء، فوق الأرض، لا تحت الطغاة، تحيا الحياة!، تحيا الحياة!، قمر على بعلبك، ودم على بيروت، يا حلو، من صبّك، فرسا من الياقوت!، قل لي، ومن كبّك، نهرين في تابوت!، يا ليت لي قلبك، لأموت حين أموت).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق