الأربعاء، 16 يونيو 2010

إذا كان وضع الدول العربية فاشلا فلماذا نستثني الرياضة؟!

2010-06-16
جريدة الشرق

المؤامرات حرمتنا التمتع من مشاهدة بداية انطلاقة كأس العالم لكرة القدم
المونديال ثمرة النجاح التي حصدتها جنوب أفريقيا بإيمانها بالديمقراطية
الاحتفالية دشنت انصهار مرحلة تاريخية جمعت أفارقة وأوروبيين وهنودا تحت مسمى واحد
القضاء على الاعتقاد بأن الله خلق السود ليصبحوا أكثر دونية من البيض
رغم العشق التاريخي للبرازيل أتمنى أن يحصل منتخب جنوب أفريقيا على كأس العالم!
لم يحرمنا العرب من لعبة المؤامرات الأزلية في بداية افتتاح كأس العالم لكرة القدم 2010 بين المكسيك وجنوب إفريقيا الدولة المضيفة من خلال التشويش على البث والقرصنة الفضائية. ولكن لِمَ الدهشة والاستغراب؟ فإذا كان وضع معظم الدول العربية يصنف في خانة الدول الفاشلة على مستوى سياسي واقتصادي واجتماعي وتنموي وأخلاقي، فلماذا نستثني الرياضة؟! ولماذا لا يستخدمها البعض كسلاح وخصوصا لعبة كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبيّة في العالم والتي استغلّتها الديكتاتوريات لإلهاء الشعوب، كما يشير البريطاني سايمون كوبر في كتابه (الكرة ضدّ العدو)، ويتناول دور الكرة الساحرة في الثورات والحروب في العالم. والكتاب يذكر أن اللعبة صارت تمثّل لغة كونية تدور مصائر ملايين البشر في العالم حولها، وبحسب وصف النجم البرازيلي الشهير بيليه، فإنها «اللعبة الرائعة التي تؤدي إلى إطلاق الحروب وإيقافها. فهي اللعبة التي كانت سبب الثورات ومحركة شرارتها الأولى، وكانت أيضاً سبباً في بقاء كبرى الديكتاتوريات في السلطة». فمعها يمكن أن ينتقل برلوسكوني من مجرَّد مالك لنادي «ميلانو» إلى رئيس حزب ثم إلى رئيس وزراء. ويمكن أن يفرح نيلسون مانديلا بتتويج جنوب أفريقيا في كأس أفريقيا الفرحة نفسها التي فرحها لخروجه من سجنه الطويل. وقد تنجح اللعبة الشهيرة في ما فشلت فيه الأمم المتحدة، حيث توقّفت الحرب الأهلية في رواندا شهراً لانشغال الأهالي بمباريات كأس العالم. وكما يقول المؤلف ان كرة القدم اليوم لا تحظى بأهمية أكثر مما تحظى به في العالم العربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتعود هذه الأهمية إلى نقص وسائل الترفيه الأخرى!
كل الأنظار تتجه اليوم إلى جنوب أفريقيا، ليس لمتابعة الاحتفالية الرياضية العالمية في تنظيم كأس العالم الـ (19) لكرة القدم 2010 فقط، بل للتعرف على ثمرة النجاح التي حصدتها جنوب أفريقيا بإيمانها بخيار الديمقراطية بعد خوضها نضالا طويلا استخدمت فيه كل الأسلحة التي عرفت في التاريخ لمحاربة سياسة التفرقة العنصرية التي مارسها بعض الفئات وأطلق عليهم (طبقة البيض) وهو مصطلح غير دقيق لان العنصرية لا تعرف الألوان، واستمر النضال طيلة 300 عام قبل أن يتمكن الشعب الإفريقي بقيادة المؤتمر الوطني (طبقة التعددية) من فرض التغيير وتحقيق المطالب العادلة في المساوئ والعدل والحرية، ما أدى إلى أن يحصد المجتمع الأفريقي الاستقرار والأمن والسلام. ليحتفل مانديلا (91) عاما ورفاقه (من ثمارهم تعرفونهم)، والعالم كله يشاركهم فرحتهم، وهو الذي أمضى 27 سنة من عمره قابعا في السجن، ليعود بعدها ويجمع شمل سكان جنوب إفريقيا من أفارقة وأوربيين وهنود تحت مسمى واحد وعلم واحد، رفرف في افتتاح المونديال العالمي عاليا في سماء كيب تاون وجوهانسبورغ والمدن التي كانت أشبه بسجون ومعتقلات أهدرت فيها الكرامة الإنسانية لعقود طويلة. وكانت المفارقة التاريخية أن يحرم القدر والد العروس (مانديلا) من حضور قداس حفلة الزفاف الكبرى في المباراة الافتتاحية لكأس العالم بسبب وفاة ابنة أحد أحفاده؟!
حكاية التاريخ مشابهة لكثير من الحكايات وان اختلفت معها في التفاصيل الزمنية والمكانية، فالظروف التاريخية والجغرافية شكلت مجموعات متباينة في أصولها وألوانها وأديانها تنحدر من الأصول الأفريقية والأوروبية والهندية، إضافة إلى عنصر الملونين الذي جاء نتيجة اختلاط هذه المجموعات العرقية فيما بينها، واستطاع (عنصر البيض) وينحدر معظمهم من الهولنديين والفرنسيين والألمان بالتحكم في مقدرات البلاد والعباد، واخطر من السيطرة على مقادير السلطة السياسة والعسكرية، كان (تسيس الدين) فلقد نشأت هذه الفئة على اعتقاد بأن الله خلق السود ليصبحوا أكثر دونية من البيض، وأن السود جاءوا من «سلالة حام ابن نوح»، وأنهم لعنوا ليصبحوا «عبيد العبيد». وهو ما خلق بيئة موبوءة لانتشار الفكرة العنصرية ولممارستها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني والفكري! لقد قسم قانون «تسجيل النفوس» لعام 1950 سكان البلاد إلى أربع مجموعات، كما تشير صحيفة الإيكونومست وهم البيض والآسيويون والهنود والملونون، والسكان الاصليون أو «السود». هذا القانون المثير للسخرية يعتمد في الأساس على المميزات الجسدية الظاهرية. وفي بعض الحالات يستخدم هذا القانون ما يعرف بـ«اختبار قلم الرصاص»، إذ يوضع القلم على الشعر لمعرفة نوعية شعر الشخص، فإذا سقط القلم كان الشخص ينتمي للعرق الأبيض وإذا ظل القلم مكانه فالشخص ملون ويذهب أولاده إلى مدارس معينة ويستخدم شواطئ خاصة به، ويتعرض للكثير من الممارسات غير الآدمية.
استمر النضال الطويل للتخلص من هذا الإرث الثقيل إلى أن استوعب الجميع دروس التاريخ المريرة، وتوصل إلى إقرار دستور عام 1996 الذي كان نموذجاً ومثالاً أساسيا من المرحلة الانتقالية الناجحة التي انتقلت بالبلاد من القمع الذي مارسه التمييز العنصري إلى المجتمع الديمقراطي، سبقها مشروع الرئيس الجنوب الأفريقي (فردريك دي كليرك) والذي طرح إجراء حوار شامل مع كافة الحركات السياسية، إطلاق سراح السجناء وعلى رأسهم مانديلا، رفع الحظر عن الحركات السياسية المحظورة، والسماح للسود ومقاومتهم بممارسة النشاط السياسي دون قيود، قيام برلمان جنوب أفريقيا وإلغاء قوانين التفرقة العنصرية، اتخاذ الحكم الذاتي الإقليمي الموسع أساسا لإدارة البلاد، وإنشاء مجلس نيابي وآخر للشيوخ.
تجربة جنوب إفريقيا اقرب وأفضل تجربة من الممكن أن تستفيد منها الدول العربية من المحيط إلى الخليج في الانتقال السلمي نحو الديمقراطية، التناوب على السلطة، تسوية الأزمات الداخلية، التعايش بين المذهب والطوائف السياسية والدينية والعرقية، والتسامح والصفح والعفو والاعتذار، التجربة يجب أن يتعلم منها العراق والسلطة الذاتية المتشرذمة والمتقطعة الأوصال بين التيارات السياسية والدينية والمذهبية، والمشرق والمغرب العربي في تطبيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان، والخليج العربي في إنشاء البرلمانات وتعزيز المواطنة والتعايش السلمي بين الإسلاميين والليبراليين والسنة والشيعة؟! إن من ابرز نجاحات التجربة في جنوب أفريقيا التخلص من الفقر والفساد والعنف والتي تحولت به الدولة الأفريقية الفاشلة إلى دولة يشار لها بالبنان ويتم اختيارها لاستضافة أهم حدث على الكرة الأرضية، ورغم معدلات الجريمة وإشكاليات التنمية التي تعتبر أزمات مزمنة لا يمكن التخلص منها بسهولة في قارة أفريقيا، استطاعت جنوب أفريقيا أن تحتويها وتنجح في التعامل معها.
بالتوفيق لكل المنتخبات المشاركة في المونديال الكروي العالمي وهو فرصة لكي نستمتع باللحظات السعيدة وننسى ولو لفترة هموم العالم العربي التي نعرف بداياتها ولا نعرف متى نهايتها. ورغم العشق التاريخي الرياضي الكروي للبرازيل أتمنى من كل قلبي أن يحصل منتخب جنوب أفريقيا على الكأس؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق