الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

ضبابية التعليم لمرحلة جديدة

2009-09-30

لا أريد أن أكون قاسياً في حكمي على تجربة المدارس المستقلة التي أصبحت الحديث رقم واحد في الشارع القطري بلا منازع، ولابد أن أؤكد منذ البداية أني لا أفضل عليها المدارس الحكومية التي أؤمن أنها تجربة استنفدت خياراتها المتبقية ولم تعد قادرة على أن تقدم الجديد أو أن تكون على مستوى التحدي المستقبلي، وربما جاء القرار الأخير بتحويل ما تبقى منها إلى مدارس مستقلة بمثابة المسمار الأخير في نعش المدارس الحكومية. وان كان البعض يصر على عدم دفنها أو يأمل أن تعود لها الحياة مرة أخرى ولو بمعجزة، فإنني توكلت على ربي وصليت على روحها صلاة الميت وحفرت لها قبرا في ذاكرتي كُتب على شاهده: هنا ترقد آخر مدرسة حكومية. ولكن غياب مراجعة حقيقية للسنوات الخمس الماضية من تجربة "تعليم لمرحلة جديدة" يجعلني استخدم وصفاً بديلاً يصف المبادرة بشكل أعمق إلى أن يثبت العكس؟؟!!.
في العام الماضي 2008 سجل التاريخ أجرأ مبادرة في الاعتذار تقع في العالم العربي، وجاءت من المغرب الشقيق حينما أعلنت لجنة التعليم والتكوين المختصة بمعالجة اختلالات التعليم بالمملكة المغربية أن الرتق اتسع على الدولة وفشلت في إصلاح المنظومة التعليمية، وقد قدم وزير التعليم الحالي دراسة متكاملة وإحصاءات صادمة تعكس حجم الاختلالات التي تنخر في جسد المدرسة المغربية، وتشير إلاحصاءات إلى " أن أكثر من 80 % لا يفهمون ما يدرس لهم، وتضيف أن 16 % فقط من تلاميذ الرابع الابتدائي يستوعبون المعارف الأولية لجميع المواد المقدمة لهم. وقد احتلت هذه الفئة من التلاميذ مراتب متأخرة في الاختبار الدولي للرياضيات ومادة العلوم، كما أن أكثر من نصف تلاميذ المرحلة الثانوية لم يحصلوا على الحد الأدنى من النقاط. وتناولت الدراسة ايضا وضعية المدرسين ومدى مسؤوليتهم، وخلص إلى أنهم "ضحايا ومسؤولون" في الوقت نفسه، مؤكدا أنهم بحاجة إلى تكوين مستمر وأن العاملين بالقطاع الخاص يدخلونه دون أي تكوين.
قبل نهاية العام نفسه نشرت بعض الصحف القطرية نتائج مدارس دولة قطر في اختبارات تيمز «TIMSS» التي بينت انها ضعيفة ودون المستوى في اختبارات الاتجاهات في الدراسة الدولية للعلوم والرياضيات. وجاءت نتائج الطلبة في المستوى الأدنى، بينما جاء في مقدمة الترتيب العالمي طلبة هونج كونج، وسنغافورة، وتايبيه الصينية، واليابان، وكازاخستان، وحل طلبة قطر في الصف ما قبل الأخير بالنسبة لاختبارات الرياضيات للصف الثامن، واختبارات العلوم والرياضيات للصف الرابع، وتقدموا على دولتين فقط في اختبار العلوم للصف الثامن، في الوقت الذي حقق فيه طلبة فلسطين مراتب لا بأس بها، وتقدموا على الكثير من الدول العربية.. المفارقة العجيبة أن طلبة قطر في نتائج اختبار رياضيات الصف الثامن حصلوا على الترتيب ما قبل الأخير متقدمين عن المغرب فقط؟؟!! وكان رد فعل المسئولين عن التعليم المطالبة بعدم القلق بل وضرورة أن تقبل النتائج بشكل ايجابي (جريدة العرب 2008 - 12 - 11).
في التجربة التعليمية المغربية كانت المصارحة والشفافية سيدة الموقف مما أدى إلى استنفار عام على جميع القطاعات وخصوصاً السياسية والتربوية والثقافية والاجتماعية فتم تناول الموضوع في البرلمان وأقيمت المحاضرات والندوات وورش العمل لتناقش وتطرح وتتساءل وتقدم أجوبة وحلولاً وترسم خطة وطنية يشترك في صياغتها الجميع، وتقدم البحوث والدراسات والتقارير والحوارات على الشبكة العنكبوتية والمدونات الالكترونية وصفحات التفاعل الاجتماعية. عكسها جاءت التجربة التعليمية عندنا في تقديم التبرير وإيجاد الأعذار وطرح المبررات، ولم يقدم شخص واحد أو تطرح جهة أيا كانت مراجعة حقيقية للتجربة التعليمية التي تعود إلى أكثر من 5 عقود وليس 5 سنوات؟؟!!
لقد تراوحت تجربة "التعليم لمرحلة جديدة" بين المد والجزر، فمنذ صياغة المبادرة بدأ الجميع يستمع للكلام المباح وفي حيرة يتساءل: هل صحيح ما يحدث في التعليم في قطر؟ وما هي هذه المرحلة الجديدة التي بدأ الترويج لها؟ هل هي مرحلة قديمة يتم تجديدها أم مرحلة جديدة مختلفة تماما عن سابقاتها؟ هل تتحدث بلسان عربي مبين أم هي أعجمية اللسان أم انها تجمع بين الاثنين في الإصلاح؟! وزفت الصحف ووسائل الإعلام لنا إعجاب وانبهار الوفود الزائرة من الدول الشقيقة والصديقة القريبة منها والبعيدة التي جاءت لتتعرف وتعاين وتقتبس من التجربة الرائدة، وأصبحت كلمة "الرائدة" شعاراً لمرحلة التعليم الجديدة يحاصرك أينما ذهبت وكيفما توجهت، وبدأت الرحلة، وحين دخل المهتمون بالتعليم ورجاله أرض المعركة للحصول على تراخيص، دخل بينهم المنتفعون والتجار وأصحاب المصالح الخاصة والذين ليست لهم دراية في التعليم ويعانون هم أنفسم من نقص في التربية- على الخط وبدأوا في تقديم طلبات وخطط لإنشاء المدارس بعدما استعانوا ببعض المكاتب والأشخاص من بعض الجاليات العربية والأجنبية، وحصل بعضهم على تراخيص سحبت منهم بعد ذلك بينما رُفض البعض الآخر لعدم توفر الشروط الموضوعية!!!. وعندما بدأت المدارس بدأت بجدية وعزم وتواضع وما لبث المشروع أن تحول ليضم مدرستين أو ثلاثا إلى أن غدا مجمعا كاملا. ولم يكن أغلبهم يستطيع أن يدير مدرسة ويساهم في انجاح المشروع الذي خلقت لأجله المبادرة. وعلى إثر ذلك تشكلت مجالس الأمناء بالتعيين ثم بالانتخاب لتنتهي بأسرع مما شكلت حين اكتشف أعضاؤها أنه لا دور لها ولا صلاحيات بل مجرد ديكور مكمل لواجهة المدرسة أو المجمع. ولم يعمر دور المستشارين طويلا، وأدت كثرة التغييرات والتبديلات في المستشارين إلى عدم نضوج العملية الإشرافية والرقابية وتراجعها، ودخلنا مرحلة الحروب من أجل الحصول على الكادر التعليمي لكي يصبح سلعة تباع وتشترى لأعلى سعر، وخصوصا من المدارس التي تحولت سريعا إلى مستقلة بعد حصول أصحابها على الترخيص. ورغم أن معظمهم تخرج حديثاً من الجامعة وحصل على دورة أو عدة دورات تدريبية؛ فإننا نجد انهم حصلوا على مناصب قيادية في أسرع عملية قفز على السلم الوظيفي التعليمي في العالم. وجاءت المفاجأة الكبرى بالتعامل مع المقررات ووضع المناهج الدراسية التي يجب أن تختارها كل مدرسة بما يتوافق مع رؤيتها، وبما أن هناك قصوراً في الرؤية وعجزاً في التصور، فقد تمت الاستعانة بالمقررات التي تدرس في مدارس ومعاهد بعض الدول العربية، وبالذات في الأردن ومصر ولبنان وسوريا والمغرب - أي من بعض الدول الشقيقة والصديقة التي تشاركنا في المراتب الأخيرة التي حصلنا عليها في الاختبارات العالمية!!! — لكي يتم نسخها وتصويرها وتوزيعها على الطلاب في المدارس على شكل أوراق ملازم وكشاكيل!!!، إلى أن جاء الهدهد من سبأ بالنبأ اليقين، والهدهد هنا هو المعاهد العالمية وسبأ هي المعايير الدولية التي يتم تطبيقها على الطلبة في جميع المدارس لتبين أين هو موضعنا الحقيقي من الإعراب.. بعدها اختفت الوفود وحل النقد مكان الثناء والمدح، وتراجعت الثقة في التعليم أكثر من السابق ورجعنا سنوات الى الوراء، حتى العلاقات العامة في التعليم تحولت من ترويج المبادرة إلى حل القضايا والرد على المشاكل والدفاع الضعيف عن المبادرة!!!
وآخر الأخبار التي تبشر بتعليم لمرحلة جديدة هي سياسة العصا والجزرة المستخدمة في التعامل مع إداريين ومدرسين حاليين وسابقين ومجموعة من العاملين في المدارس الحكومية للعودة إلى التدريس، هذا بعد تدريبهم بالطبع، ولكن ماذا لو أن بعضهم لا يرغب في التدريس هل نرغمه أو نطرده، وماذا عن البعض الآخر الذي لا يصلح للتدريس هل سيمنح وظيفة حكومية مكتبية أم نفرض عليه دورات تدريبية في البقية المتبقية من عمره؟؟!! والمشكلة في الدورات التدريبية التي يتم طرحها كما سمعت من أكثر من مصدر أنها روتينية مكررة ومملة ولا يوجد فيها تفاعل وحركة وتميز، لذا تجد المشارك غير متحمس ولا جاد وليس فاعلا أو راغبا في اكتساب المعرفة والاستفادة والتعلم.
لا نخفى أن هناك إحباطاً شديداً وخيبة أمل في المخرجات التعليمية على كل الأصعدة، ابتداء من التحصيل العلمي للطالب مرورا بوضع وصياغة المناهج الدراسية، وليس انتهاء بطريقة التدريس وكفاءة القائمين عليه. ومن الواضح ان تجربة "التعليم لمرحلة جديدة" قائمة على التجربة والخطأ!!! ففي كل سنة تطبق تجربة جديدة لا علاقة لها بسابقتها، والطلبة هم حقل التجارب والمعلمون دائما في قفص الاتهام، فهم ضعفاء ولا يمتلكون المهارات ولا يطورون من ذواتهم.. ولا يواكبون التطور والتغيير، بل يقاومونه. لكن من أين نحصل على البديل وعلى المعلم المثالي!! وفي غياب البديل نعود إلى الحلقة المفرغة والدائرة المغلقة لنصل الى نفس النتائج بأن نحصل على المراتب الأخيرة في التحصيل العلمي، حتى الدول التي ساعدناها في بناء مدارس ومعاهد تعليمية حصلت على مراتب أفضل منا!!!!
ما اخشاه من النظام التعليمي لدينا أن يعمل تحت افتراض واحد، وهو أن هناك طريقة واحدة صحيحة فقط لعمل أي شيء بما في ذلك التحصيل العلمي في المدارس ويشدد على عملية التدريس أكثر مما يركز على عملية (التعليم). فنظامنا التعليمي وخصوصا في ظل تلك النتائج المؤلمة يصلح لتخريج موظفين يعملون في الوظيفة الحكومية وليس قادة للمستقبل، والخوف أن يأتي على المبادرة زمان لا نستطيع أن نفرق فيه بين المدارس المستقلة والمدارس الحكومية، بل يصبح الأمر مجرد تغيير مسميات وتصبح ثمرة النظام التعليمي والموارد التي بذلت فيه عبارة عن خريج كان تلميذاً صغيراً يحمل حقيبة على ظهره كلَّ صباح، ويعود بها بعد الظهر، ولم يتغيَّر شيء سوى حصوله بطريقة أو بأخرى من هذه الجهة أو تلك على وريقات جرى العرف على تسميتها "شهادات" ولم يعد لأغلبها أي مدلول علمي أو مهني يذكر، لذلك أرى أن المرحلة التعليمية التي نمر بها "مرحلة ضبابية"، ولا يعود السبب فيما يبدو إلى المشروع نفسه ولكن الى تطبيقاته على أرض الواقع التي لم تستطع حتى الآن تحقيق أهدافه ولا مواكبة الرؤية التي بشر بها أصحابه في الأصل. وأتمنى أن أكون مخطئا، ويبقى الزمن وحده كفيلاً بإثبات ذلك أو نفيه..

خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
Aljaberzoon.blogspot.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق