الأربعاء، 20 يناير 2010

بناء القيم السلوكية في التجربة التعليمية اليابانية

المستقلة2010-01-20

ما يميز تجربة المنظومة التعليمية اليابانية هو التركيز والاستثمار في العنصر البشري في التنمية (يبلغ عدد سكان اليابان 127 مليون نسمة) والذي يعد المورد الرئيسي الذي تعتمد عليه اليابان في ظل غياب الموارد الطبيعية الأخرى وتعرض البلاد إلى الكوارث المناخية مما يهدد الحاضر والمستقبل بشكل مستمر، وقد بدأت الإصلاحات الجذرية في النظام التعليمي الياباني بعد الهزيمة التي تعرضت لها في الحرب العالمية الثانية والتي تشبه الهزائم التي تعرضت لها الدول العربية مع بعض الفوارق، فعوضا عن المواجهة والمراجعة والدخول في مرحلة الإصلاحات والتغييرات تم الالتفاف على الهزائم العربية وسميت بمصطلحات كثيرة منها "نكبة، نكسة، وعكة، تراجع، تعثر"، ولا يزال حراس المعبد وسحرة فرعون إلى اليوم لهم القدرة على تحويل الحبال إلى أفاعي والأفاعي إلى حبال.. حبال لا تزال تلتف حول رقابنا كلما حاول أحد منا أن يتجرأ على إيجاد إجابات شافية على سؤال العرب والمسلمين المصيري: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟؟!!
كثيرًا ما يقال إن نظام التعليم الياباني قبل الحرب العالمية الثانية كان يعتمد على الحفظ عن ظهر قلب، ويقال اليوم إنه يتسم بالمرونة والذكاء والمبادرة بدرجة كبيرة إلا أن أهم ما يعتمد عليه هو تعزيز دور الأخلاق وتنمية السلوك وتقويمه. يشير السفير البحريني في طوكيو خليل حسن، إلى أن الطفل الياباني يتعلم في الحضانة والمدرسة أخلاقيات السلوك، باحترام الآخرين، والتعاون معهم بتناغم جميل، مع تقدير الوقت وقدسية العمل، كما يتعلم مهارات أدب الكلام. وتعتمد مهارة المخاطبة على احترام الوقت، كما يتعلم الطفل الياباني التركيز على السمع، للاستفادة، وقلة الكلام، للحفاظ على الوقت، وتقليل فرص الخلاف ويدرب الطالب، منذ الصغر، على مسئولية العمل، وذلك بمحافظته على نظافة المدرسة وكنس صفوفها وزرع حدائقها، ورعاية حيواناتها. وتطور أحاسيسه الروحية بتعلم احترام جميع الثقافات والأديان، والتدرب في تذوق الشعر والموسيقى وزيارة المعابد والمتاحف. وحينما يكمل الطالب المرحلة المتوسطة يتعرف على مهاراته الخاصة من خلال استبيان يبين إمكاناته الشخصية والذهنية، يساعده في اختيار اختصاصه المستقبلي. ويتوجه ما يقارب الثلث من طلبة المدارس المتوسطة للمعاهد التكنولوجية والزراعية، بينما يكمل الباقي الدراسة الثانوية. ويتقدم الطلبة بعد النجاح في الثانوية لامتحان عام يقيم إمكانياتهم اللغوية وقدرات حلهم للمعضلات العلمية والاجتماعية، لتحدد درجات هذا الامتحان، الكليات التي سينتسبون إليها.
ومما يميز التجربة التعليمية اليابانية السلوكية أيضا ما أشار إليه الدكتور شهاب فارس — أستاذ اللغة اليابانية المساعد (كلية اللغات والترجمة — جامعة الملك سعود) من انه لا يوجد في المدارس حارس أو ناطور أو فراش ولا حتى عمال نظافة، ولذا يأخذ التلاميذ والطلاب والمعلمون على عاتقهم تنظيف المدرسة وتجميل مظهرها الداخلي والخارجي، بل يمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة أيضًا وذلك بتعاون الجميع وفي أوقات منتظمة ومحددة، كما أنه لا توجد مقاصف في المدارس اليابانية، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية وعدد من الطاهيات حيث يتناول التلاميذ وجبات طازجة تُطهى يوميًا بالمدرسة. ويقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة، وفي نهاية اليوم الدراسي يعقد التلاميذ جلسة جماعية يسألون أنفسهم فيها عما إذا كانوا قد أتموا عملهم اليوم على أكمل وجه أم لا؟ أم أن هناك قصورًا فيما قاموا به من أعمال؟ أو هل كانت هناك مشاكل ما؟ ولا شك أن هذه الطريقة في التعليم تستهدف روح الجماعة وتحمُّل المسؤولية والالتزام والقيادة، كما تشكل أيضًا قوة نفسية رادعة لكبح جماح السلوكيات الاجتماعية غير اللائقة تجاه المجتمع والغير.
إحدى المبادرات العربية المميزة التي قرأت عنها في الآونة الأخيرة جاءت من الإدارة العامة للتربية وتعليم البنات بمنطقة نجران في السعودية وتمثلت المبادرة في اطلاق مشروع تربوي بعنوان (التربية قبل التعليم) تمثلت فكرته في قياس سلوكيات الطالبات في مواقف تربوية مختلفة وتقويمها بهدف ترسيخ مبدأ أهمية التربية داخل المدرسة، واشتمل المشروع على تخصيص حوارات تربوية وبرامج إذاعية مدرسية، وإعداد مطبوعات توعوية تربوية ولافتات حائطية تدفع الطالبات للتمسك بالأخلاق الحميدة وتعاليم الدين الحضارية، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ومهرجانات ومسرحيات ذات مؤثرات مناسبة وتوثيق النشاط بملف خاص بالمسرح التربوي، وتجهيز مكان مخصص لورش العمل، وقد أشرفت على المشروع عدة لجان تنظيمية هي، لجنة الإذاعة والمسرح التربوي ولجنة التقييم والقياس ولجنة التوعية والدعاية والإعلام، قامت كل لجنة منها بمهامها الخاصة التي أسهمت في نجاح المشروع، حيث اهتمت لجنة التوعية والدعاية والإعلام بالتوعية بالمشروع والدعاية والإعلان لبرامجه منذ بدايته ومتابعته في مختلف مراحله، أما لجنة الإذاعة والمسرح التربوي فقد اهتمت بتنقيح المشاهد التربوية وتدريب الطالبات واختيار المؤثرات اللازمة، أما لجنة التقييم والقياس فعملت على إعداد استمارات التحضير التربوي اليومية التي تقيس مدى نجاحه وطرح الحلول المناسبة لأي معوقات تطرأ عليه. وقد أشاد أولياء الأمور بهذا المشروع من خلال استمارات التقييم التي وزعت عليهم ووصفوا التغير الذي طرأ على بناتهم الطالبات المشاركات في هذا المشروع ومدى تأثيرهن على اخوتهن في بيئة المنزل. وبعد نجاح التجربة تسعى الإدارة التعليمية إلي تعميم التجربة وتطبيقها في المدارس الأخرى.
إن ما تحتاجه المبادرة القطرية في التعليم لمرحلة جديدة هو الاهتمام والتركيز على بناء القيم السلوكية التي نراها معدومة أو غائبة في المدارس المستقلة التابعة للحكومة أو حتى المدارس الخاصة والأهلية، فالسلوكيات هي الرابط ما بين الطالب أو الطالبة والمدرسة التي يقضون فيها معظم أوقاتهم في التعلم والدراسة واكتساب المهارات المختلفة التي تؤهلهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع في المستقبل. ان المبادرة التعليمية بحاجة إلى تقديم جرعات أكبر لتأصيل القيم الأخلاقية والتربوية وتغيير السلوكيات السلبية من خلال تضافر جهود الجميع في وزارة التربية والتعليم والمدرسة ومشاركة أولياء الأمور وبعض المؤسسات والأفراد ليتم نشرها وتثبيتها وممارستها لدى الأبناء، وذلك لتصبح جزءا أصيلا في سلوكهم وتعاونهم مع بعضهم البعض لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة ويمكن البدء في هذا المشروع من خلال المشاركة في وضع ميثاق القيم السلوكية والأخلاقية (Code of Conduct)، وأتمنى من كل قلبي أن يأتي اليوم الذي أقارن فيه سلوكيات الطلاب في إحدى المدارس في قطر أو العالم العربي بنظيرتها في اليابان.. ويا حبذا لو يكون ذلك اليوم قريبا رغم أننا نراه بعيداً بعيداً.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق