الاثنين، 4 يناير 2010

فرنسا الغريبة...الفرانكفونية في معرض كتاب الدوحة

2010-01-04

الفرانكفونية اليوم تبحث عن هوية ووطن وغير قادرة على أن تعرفنا بنفسها
الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان
كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا
الكتب المعروضة في المعرض موجودة على شبكة الانترنت بدون رقابة

بدت ملامحها غريبة، متوجسة، ومنعزلة، رغم العرض المبهر والديكور الفاخر والموقع المميز عند البوابة الرئيسية لدخول معرض الدوحة الدولي الـ"20" للكتاب، وهي ضيف الشرف، إلا أن الحواجز والموانع في التواصل ظلت تطاردها في منطقة لا تنتمي للفرانكفونية (وهوالمصطلح الذي حدده أونسيم روكولو، في 1880م وقصد به مجموع الأشخاص والبلدان التي تستخدم اللغة الفرنسية وثقافتها في موضوعات عديدة). وقد اقتصر زوار جناحها على بعض النخب التي جاءت لتقديم المجاملة والإطراء وعمل الواجب تجاه الضيف في قطر، وليس للبحث عن أرث ضائع كان أحد أركان الحضارة الحديثة بأفكاره ورواده ومفكريه. ذهبت للجناح الفرنسي أبحث في أركانه عن التنوير وأين وصل وعن مكانه في الاعراب في ثقافة تتعرض لصراع الهوية الوطنية بشكل دوري، وعمن يمثلها ويتحدث باسمها وعنها، وعلاقتها مع الإسلام والمسلمين، ومع الآخر بوجه عام في عصر العولمة وخصوصا بعد انتشار مطاعم ستارباكس وماكدونالدز الذي قرر أن يفتح فرعا في متحف اللوفر منذ مدة قصيرة؟!. درت في الردهات أبحث عن الحداثة وما بعدها وعن الجديد على الساحة لمقارنة ذلك بوضعنا، بحاضرنا ومستقبلنا. وكانت خيبة الأمل شديدة فلم أجد ضالتي، فالجناح الفرانكفوني يصلح للمشاركة في معارض السياحة والسفر والتجوال وربما الطبخ، وليس المشاركة في معرض متخصص يتناول الثقافة والفكر والكتب؟! بحثت عن الكتب العربية فلم أجد إلا كتابين، وسألت عن الانجليزية التي تتناول الثقافة الفرانكفونية بحكم الدراسة في الدول (الانجلوسكسونية) فلم أجد إلا 4 كتب. أما الفرنسية التي حاولت اختيار مجموعة من كتبها على سبيل الذكرى، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
ابتعدت الفرانكفونية كثيرا في الآونة الأخيرة، وحاصرت نفسها بأسوار وجدران عالية، فهي التي لعبت جميع الأدوار ونقيضيها (Good Guys & Bad Guys) و(Angels & Demons)؟! من استعمار الدول في القارات المختلفة ومنها العربية والإسلامية في الجزائر وتونس وجيبوتي، ومارست الحماية للمغرب، والانتداب على سوريا، وقبلها حملت المطابع في الحملة الفرنسية وتوابعها على مصر (1798 — 1801 م)، وزودتها بالحروف العربية والتركية والفرنسية واليونانية، إلى جانب ما قامت به من أدوار في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حاولت بعده تكفير خطئها في نشر ثقافة الحوار والديمقراطية وتعزيز الثقافة الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم، من أجل الإنسان والمحبة والسلام، وعبر الثقافة والفنون والآداب وفروعها في الفلسفة والفكر والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمسرح والرواية والشعر، لكنها اليوم تبدو وهي تبحث عن هوية ووطن وهي غير قادرة على أن تعرفنا بنفسها ولا تدعنا نعرفها عن أنفسنا؟!. لقد تابعت التحركات الفرانكفونية خاصة في دول الخليج العربية وكانت السياسة وهمومها هي الطاغية على المشهد وفي أغلب الصور، في الحديث عن انشاء القواعد العسكرية والوجود بحرا وجوا وبرا، وإرسال حاملات الطائرات المقاتلة، وسفن التجسس، وتسويق آخر المبتكرات الفرنسية في مجال التسلح، وترويج عدد من طائرات رافال (Rafale) لتحلّ مكان طائرات ميراج (Mirage)،؟!. أما المبادرات الأخرى الشحيحة التي تستهدف مجال التعليم والثقافة والتي اقتصرت على نخب معدودة على أصابع اليد، فقد جاء أغلبها مكملا للدور الأول؟! ولا ننسى أيضا مدى ما بلغته تجارة العطور والملابس الداخلية وعروض الأزياء النسائية الفرنسية عند الخليجيين من أهمية؟!
قبل أن أغادر المعرض، وقفت على مقربة من المدخل الرئيسي أنظر إلى الجناح الفرانكفوني من بعيد، تراءت لي آخر المعارك — وليست الأخيرة — التي دارت على الساحة الإنسانية حين طرحت الإشكالية المشككة في الأطروحات التي قدمها رموز الثقافة الفرانكفونية ورواد عصر الأنوار، وقد تحدث عنها هاشم صالح في تعليقه على كتاب تاريخ الفلسفة الفرنسية، والجدل دائما ما يبدأ بسؤال تعقبه مسائل، والسؤال كان: هل توجد حقاً فلسفة فرنسية؟ ودارت الأطروحات حول أن فرنسا لا تعتبر بلداً فلسفياً بكل ما تحمله الكلمة من معان وجمل؟! الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان والانجليز على سبيل المثال؟ الفرانكفونيون روحهم متواضعة وخفيفة وسطحية، والفكر يتطلب عقولاً ثقيلة أو أدمغة ضخمة كعقول مصنوعة من المدافع الثقيلة مثل (الماكينة المانية)، ساعتها نهضت القوة الدفاعية الفرانكفونية لتفرض نفسها وتدخل المعركة بكل ثقلها وتصدح بمقولة ديكارت الرائعة (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ولا تتردد أوتخجل في أن تقارن نفسها مع الفلسفة اليونانية، والفلسفة الألمانية، فالفلاسفة الفرانكفونيون بالفعل فلاسفة وليسوا كتاباً أو أدباء فقط؟! من أبيلاروسان برنار في القرون الوسطى الى ديلوز ودريدا في العصر الراهن، مروراً بمونتيني، وديكارت، وروسو، وفولتير، وباسكال، ومالبرانش، وبيرغسون، وسارتر، فكانط اعترف بمديونيته لجان جاك روسو، وهيغل أشار إلى ديكارت بأنه بطل الفكر والمؤسس الحقيقي للفلسفة الحدثية، بل ويشير ميشيل سير، أحد كبار الفلاسفة الفرانكفونيين حاليا كما يعرفه هاشم صالح الذي نستعين بالكثير من مقولته هنا، إلى أن معظم فلاسفة الفرانكفونية وخاصة الرواد الذين قدموا الكثير للفكر الإنساني وضحوا ودفعوا الثمن غاليا كالعظماء الآخرين وربما أكثر منهم، كانوا يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم ومنبوذون من قبل معاصريهم. وقد أكدوا أنفسهم عن طريق التمرد على العقلية السائدة والامتثالية، عن طريق لغم القناعات الراسخة وتفكيكها، ولكن يبقى العامل المشترك لمعظم الفلاسفة الفرنسيين على مدار العصور أنهم كلهم تعرضوا للاضطهاد والعيش في المنافي لأجل أن يوصلوا أفكارهم إلى العالم أجمع؟!
إن معظم المفكرين الفرانكفونيين أدينوا بشكل أوبآخر من قبل سلطات عصرهم، سواء أكانت سلطات لاهوتية، أم سياسية، أم اجتماعية، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا بعد أن ماتوا ودفعوا الثمن، فرينيه ديكارت، اضطر إلى الهرب من بلاده والعيش في هولندا لمدة عشرين سنة، ثم في السويد لأنه كان يريد أن يتخلص من الجوالخانق السائد آنذاك في المملكة الفرنسية بسبب هيمنة التقليد والتحجر العقلي والأصولية الكاثوليكية. وجان جاك روسو عاش محتقراً، منبوذاً، مطارداً من مكان إلى آخر وكأنه مجرم!! وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته، ولم يتم تذكره إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية ليكرموا ذكراه، وينقلوا رفاته إلى مقبرة العظماء، ويتخذوا من كتبه دستوراً ومنهاجاً للجمهورية الفرنسية! وفولتير سجن في سجن الباستيل قبل أن يهرب إلى انجلترا، وحين وافته المنية رفض الكهنة الصلاة عليه أودفنه في مقابر المسيحيين لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً؟! وديدرو اعتقل لفترة من الزمن في سجن «فانسين»، وأما كوندرسيه فقد حكم عليه بالموت وانتحر في السجن، وبالمختصر المفيد فإن كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً وتضع أسماءهم على شوارعها وساحاتها العامة كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا، ولا يشذ عن ذلك فيكتور هيغو الذي نفاه نابليون الثالث لمدة عشرين سنة ليعيش كالبؤساء، قبل أن يعود كالفاتح المظفر إلى باريس؟!
حملت الكيس الذي أضع بداخله كتبا قليلة اقتنيتها من المعرض حتى لا اخرج خالي اليدين، فلم تكن هناك كتب تستدعى من المرء أن يقبل عليها بلهفة وشوق ونهم، وللعلم فقد أصبح معظمها موجود على الشبكة العالمية (E — books) وتمكن قراءتها من غير رقابة ولا مقص رقيب بعد ساعات قليلة من صدورها والرجوع إليها كمصادر في أي وقت ومكان وزمان؟! خرجت متسائلا عن الفرانكفونية التي رأيت، هل هي جديدة قديمة أم قديمة جديدة أم شيء آخر لا يريد أن يعرفنا ولا نريد أن نعرفه؟!
خــــالـــد الجــابــر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق