جريدة الشرق
2011-12-07
ثقافة التعايش والقبول بالآخر تميز التجربة العمانية عن الدول الخليجية
التجربة العمانية تعمير البنيان وتنمية الإنسان وزرع روح المواطنة
هل تجاوز المشهد العماني الحراك الشعبي والاعتصام والمظاهرات؟!
الدليل السياحي العالمي "لونلي بلانيت" (lonely Planet)، نشر قائمة عام 2011 لأفضل المدن التي ينصح بزيارتها، وكانت المفاجأة أنها جمعت مسقط في سلطنة عمان مع نيويورك ولندن. لقد تغيرت ملامح هذه المدينة التي كانت تعيش قبل أربعة عقود محاطة بمناطق جبلية بعيدة عن المدنية والتطور والعمران وباتت اليوم بتاريخها وتراثها وجمالها وحيوية شعبها تنافس دبي والمنامة والرياض والدوحة ومدينة الكويت وقد اختيرت عاصمة للسياحة العربية للعام 2011، ورسمت لها مكانا في قلب الموسوعات السياحية العالمية بكل جدارة.
(1)
المشهد العماني كغيره في الدول العربية شهد حراكا شعبيا من الدخول في الاعتصامات والمظاهرات. ولكن حين اعتمد الإعلام الرسمي في الدول العربية: تونس، مصر، ليبيا، اليمن وما يزال في سوريا، تغطيته للحراك الشعبي داخل بلدانه على ما يمكن تسميته بـالـ «تاءات الأربع»، وهي تجاهل لما يحصل، وتكذيب لما يردده المحتجون، وتشويه لرموز الحركات الاحتجاجية، وتأليب ضد المحتجين، إلا أن الإعلام الرسمي العماني، كما، يشير الدكتور زكريا المحرمي، قد وعى الدرس الذي فشل فيه الإعلام الرسمي في الدول الأخرى، حيث بادر وبصورة مدهشة في تغطية الأحداث العمانية ساعة وقوعها، كما فتحت الإذاعة والتلفزيون سلسلة من البرامج المفتوحة التي كانت تتعاطى مع الحدث بكل أريحية وحرية وهو أراد استيعاب المشاهد حتى لا يتوجه إلى الفضائيات ومواقع الانترنت، وقد نجح في المهمة بشكل كبير بحسب شهادات المتابعين في الداخل والخارج. إلا أن ذلك أخذ في التراجع بعدها، لكن الإعلام التجاري أخذ زمام المبادرة وواصل مسيرة الانفتاح الإعلامي من خلال مساحة الحرية الكبيرة التي توفرها الصحف غير الرسمية وبعض القنوات الإذاعية والمنتديات الاجتماعية. لكن رغم الأحداث التي لم تستقر وتتضح بعد على الساحة، إلا أن ابرز ما في التجربة العمانية هو الثقافة الإنسانية الغزيرة التي رسخت عبر العقود الطويلة من التاريخ العماني السياسي والاجتماعي. وابرز ما فيها هو التنوع والتسامح والقبول والتعايش مع الآخر وهو ما يميز التجربة العمانية عن الدول الخليجية المحيطة بها. وهي ثقافة تجاوزت مسألة التفلسف والتنظير إلى الرسوخ في عمق المجتمع ويبدو ذلك واضحا في التعامل مع المذاهب الإسلامية المختلفة السنية والشيعية والمذهب الرسمي الإباضي بالإضافة إلى الإسماعيلية والصوفية وغيرها. وهي إحدى الإشكاليات الكبيرة في الدول الخليجية التي لديها أقليات دينية ومذهبية والتي دخلت في الاختلافات الفقهية والتكفير والإخراج من الملة، وصولا إلى الاشتباكات والصدامات السياسية والاجتماعية وتطور الحل ليصل بالمطالبة بإسقاط النظام وتغيره جذريا مثل البحرين. في التجربة العمانية هناك مكان أيضا للآخرين من أصحاب وأتباع الديانات من بوذيين وهندوس، ومسيحيين كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس وأقباط، والجميع يقوم بممارسة طقوسه العقائدية في ديره ومعبده وكنيسته دون تعصب أو تزمت أو رفض وممانعة. الدكتور وليد خالص يشير إلى أن السلوك الإباضي «شعرا ونثرا» يكرس «الحرية الفكرية»، فهو لا يدعي انه يملك الحقيقة كما ادعى غيره، وهناك قصيدة طويلة تقع في 75 بيتا للشيخ جاعد بن خميس الخروصي، يتحدث فيها عن «تحولاته الفكرية» والتي يسميها أهل السلوك والتصوف بـ«الأحوال»، التي تؤدي إلى المقامات والترقي، وفيها يقول أنه مرة يرى نفسه سنيا، ومرة أخرى شيعيا، ومرة إباضيا، ومرة حنفيا، ومرة شافعيا، وهو لا يستهزئ بها أبدا، إنما كأنه يأخذ بأقوالها ويتبنى فكرها، لكنه بعد ذلك يقول: «صرت أشبه بذلك النور الذي ينبثق من الشهاب»، فقد جمع هذا كله، مستشهدا بالبيت العربي القديم: «وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر».
(2)
تشير المراجع الأكاديمية أن التاريخ والثقافة العمانيين يقومان على أساس ثلاثة مبادئ أساسية ثابتة اولا: مبدأ السلطة، أي نظام الإمام القائم على الإجماع والتعاقد، والانتخاب الحر للإمام والشورى. وهذا المبدأ هو بحق القاعدة الأساسية للديمقراطية العمانية، الديمقراطية ذات النفحة الروحية والأخلاقية والتي تستأهل أن توصف بالديمقراطية الإسلامية العمانية. ثانيا: إن مفهوم الوطن لدى العمانيين تكوّن مبكراً، وذلك بعد أن تحولت عمان إلى "الوطن الروحي" للإباضيين وأصبحت ملاذاً للفارين من اضطهاد السلطات العباسية. ثالثا: مبدأ الاستقلال والسيادة. وقد ثبت هذا المبدأ عملياً مع انفصال عمان عن الدولة الأموية أولاً، ثم عن الدولة العباسية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. صنع تلك المبادئ الثلاثة خلال أثني عشر قرناً من الممارسة والتطبيق، التاريخ والثقافة العمانيان، وصاغت الثقافة السياسية للبلاد. وقد مثلت "الديموقراطية الإسلامية العمانية" أحد أهم محاور التاريخ العماني، وخاصية ميّزت الثقافة السياسية العمانية. ولقد وجدت الحركة الإباضية هويتها العقائدية والفكرية في زمن مبكر من تاريخها السياسي، إن مبدأ الإمامة الذي تبنته الإباضية والقائم على مبدأي الشورى والانتخاب الحر للأئمة، مبدأ الإجماع والتعاقد، يمكن أن يصنف في خانة الوريث الحقيقي لتقاليد نظام الخلفاء الراشدين ولكن تبقى مسألة التوافق بين النظرية والتطبيق والتغيير وعامل الزمن وتطوير تجربة الإمامة الإباضية التي كانت رائدة بكل المقاييس ولكن تجاوزها الزمن وفرض وقائع مستجدة. بالإضافة إلى أن تطوير المسار الديمقراطي ومؤسساته المدنية والشعبية هو اكبر التحديات التي تواجهها التجربة العمانية في عصر الثورات العربية. لقد خرجت التجربة العمانية قوية بعد أحداث الستينيات وبالتحديد فى عام 1963 حين تجمعت ثلاث منظمات صغيرة هى " حركة القوميون العرب"، و"الجمعية الخيرية العمانية"، و"منظمة الجنود الظفاريين"، ليندمجوا معا مشكلين (الجبهة الشعبية لتحرير ظفار)، وخاضت حربا لا هوادة فيها ضد نظام الحكم، إلا أن جاء التغيير من داخل المنظومة العمانية في بداية السبعينيات وبدأت مسيرة النهضة العمانية وما زالت تتقدم رغم العوائق والمنغصات.
(3)
لقد احتفلت سلطنة عمان قبل مدة بعيدها الوطني الحادي والأربعين في عمر مديد من القدرة العمانية السحرية في التركيز على تعمير البنيان وتنمية الإنسان وزرع روح المواطنة وتعزيز الحقوق والواجبات والأمن وسلامة الوطن واللحاق بركب الحضارة والابتعاد عن الدخول في الصراعات والحروب والنزاعات الحدودية والترويج للانجازات والانتصارات الوهمية والمزيفة التي يتملق بها القادة العرب ويغطون بها على إخفاقاتهم. وقد آن الأوان في الدخول في مرحلة قطف الثمار والقيام بالقفزات الكبرى من خلال ترتيب البيت الداخلي في الحكم والخلافة، ومعالجة التمركز الشديد للسلطة وتوزيع الصلاحيات، وتطوير مسيرة مجلس الشورى في البلاد وتوسيع صلاحيته التشريعية والرقابية لمعالجة القضايا الرئيسية والمصيرية، وتعزيز دور المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية. المؤشرات كلها تدل على إمكانية العمانيين الكبيرة على عشق التغيير والركض للحاق بركب القطار الذي غادر المحطة قبل قليل، وعدم انتظار القطار القادم لآن الزمن لا ينتظر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق