جريدة الشرق
2011-09-21
ببالغ الأسى والحزن تنعى الساحة الإعلامية والصحفية، زميلتنا ورفيقة دربنا وأختنا الفقيدة الراحلة الكاتبة القطرية هند السويدي (أم عبدالرحمن). ويعلم الله أنّا فقدنا قامة وطنية قلما تجود علينا الأيام بمثلها، وقلماً نسائياً يعد من أبرز الكتاب في المجتمع، وفارسة ومدافعة عن القضايا الوطنية وهمومها وأتراحها وأفراحها بامتياز، وشخصية جريئة وشجاعة في التعبير عن الرأي وكلمة الحق في زمن أصبحت فيه المواقف وتبنيها من العملات النادرة.
يصعب التعبير والوصف والحديث في الأوقات التي تدعونا إلى أن نفضي بما تحمله خلجات قلوبنا عن رموز وأشخاص أثروا فينا، وتأثرنا بهم، وهم وإن رحلوا عن دنيانا وفارقونا بأجسادهم إلا أن أفكارهم لا تترجل، وآراءهم وتاريخهم تعيش في داخلنا وتصبح جزءاً من شخصيتنا وأفكارنا وآرائنا. المرحومة بإذن الله (أم عبدالرحمن) رافقتنا في السنوات الأولى في صحيفة الوطن، من خلال الكتابة الأسبوعية على الصفحة الأخيرة، التي كانت تحمل عنوان "نافذة على الوطن"، وانتقلنا بعدها إلى الصفحات الداخلية في الملحق الخاص بالوطن والمواطن، وكتابة المقالات الطويلة التحليلية، ورغم الارتحال من مجال إعلامي إلى آخر، ووصولا إلى صحيفة "الشرق" ظل التواصل بالكلمات والأفكار متصلاً، رغم بعد الزمان والمكان، وكم كانت آخر الأخبار سعيدة عندما سمعنا أن الزميلة (أم عبدالرحمن) ستنضم إلينا وتعزز من روح الفريق "الصامد" من الكتاب والأقلام الوطنية، الذين باتوا يعدون على الأصابع من خلال الكتابة الأسبوعية في جريدة "الشرق" ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا نقول إلا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. وشكراً لزميلي رئيس تحرير "الشرق" في المبادرة التي أعلن عنها من خلال تجميع مقالات (أم عبدالرحمن) في الصحف المحلية وعبر المواقع المختلفة، وإصدارها في كتاب توثيقي، وكما كنت أتمنى أن تأتي المبادرات من خلال وزارة الثقافة المحسوبة علينا، ولكن لا يجوز على الثقافة في قطر إلا الدعوة لها عند التكبيرة الثالثة في صلاة الجنازة، الخاصة بالترحم على الميت!
من بين الكتابات والمقالات الصحفية والإبداعات الأدبية الرائعة التي سطرتها (أم عبدالرحمن)، عادت بي الذاكرة إلى القصة المؤثرة التي نشرتها قبل عدة سنوات وكانت بعنوان "الموتى لا ينطقون أبداً" ومن يقرأها يشعر بذلك النمط من الكتابة والصراع الإنساني الداخلي للتعبير الذي لا يتوقف حتى مع الوصول الى الرمق الأخير. وكأنها شهادة عن الهواجس الوجودية على حدث يقع في المستقبل، وليس في الماضي أو اللحظة الزمنية، فهل كان النص الأدبي تلويحاً مبكراً بالرحيل لم نستوعبه ساعتها، وحاولت الكاتبة أن توصله إلينا بطريقة أو بأخرى، من خلال أنين البجعة المحتضرة على لسان بطلة القصة؟! نظراً للمساحة الضيقة للنشر، أعتذر على الاجتراء على النص من خلال عرض بعض المقتطفات، فما جاء فيه موجود على الشبكة العنكبوتية لمن يحب الرجوع إليه، تقول الكاتبة على لسان بطلة القصة: "لست أدري ما يحدث لي.. كل ما أشعر به أن جسدي أصبح بعيداً عني وغريباً عني.. وكل ما أراه الآن عالم أبيض، حملني إليه ملك الموت على عجالة رهيبة، خطفت بصري وسمعي، وأوقفت نبض قلبي، وجعلتني أدخل سم الخياط، تحت قماش أبيض، تمتلئ رائحته بالكافور.. أنا لا أغمض عيني الآن ولا أفتحها.. إنها ليست لي الآن.. ولكن أرى من خلال ثقوب بيضاء الذين يتشحون بالسواد من حولي، يلقون علي الوداع الأخير، ويتسارعون إلى تقبيل جبيني.. ولكن حاملي "السقالة" قد عجلوا في حملي إلى حيث صمت القبور.. أنام هناك حتى الذؤابة.. واستقر في حفرة مع الموتى الذين يزفون الآن نبأ قدومي إليهم في السماء.. لا أعلم أهو شعور لذيذ أن ألتقي بمن سبقني إلى عالم البرزخ أم شعور مخيف، لن يزول عني ما بقيت في انتظار نهوض العالم معي إلى حيث الحساب؟!.. آه يا كلمة حساب.. أي حساب عسير ينتظرني الآن.. ويحك أيتها الذاكرة.. لقد أصابك العطب، وغاب عنك كل منطق تعلمته في صفوف المدرسة، وكل الأرقام، وكل الحروف.. ولكن هذا مصير محتوم لكل البشر، فالأكفان تنتظر أجساد البشر..
وأجفان السماء تهتز من الموتى الذين في البرزخ، يزفونني كنبأ ميلاد ميت جديد.. أما الذين في الدنيا فإن الأيادي تنتظر حفر قبر لي، واكتظ المكان وعج بالأجساد الذين ترامى إليهم نبأ وفاتي، وانتقالي إلى رحمة الله، وكتبت الصحف عني، أنني دخلت في ذمة الله، وسوف تلتحف المقبرة بجثة جديدة، وتنعم بجثة بيضاء سمينة تفوح منها رائحة الكافور، فلا أرض تحتي ولا سماء فوقي، ولا بحر أمامي ولا بر خلفي.. ولكن أعيش ازدواجية لا تعيها ذاكرة ولا يفهمها عقل.. الناس يرونني طريحة القبر، تلفحني الشمس بلسعات أشعتها تارة، وتبكيني الغيوم بغزارة أمطارها تارة أخرى، ولكنني أرى شيئا آخر.. فلا صمت القبور يخيفني ولا رائحة الموتى تزكمني، ولا أحسد الحشرات على سريانها حية فوق جثتي، ولا الديدان على نبشها لخيوط كفني.. وكل ما يخيفني أنني ألتحق بعالم الموتى.. والتقاء الأرواح فخلف بروج السماء في برزخ إلى يوم يبعثون.. لقد سقطت الشمس خلف الأفق وسقطت ورقتي أمامها..
.. أرى أمي تنتحب وأبي يبكي في صمت.. أرى إخوتي يغسلون أعينهم وقد فاضت من الدمع.. أرى أخي طريح الفراش يئن ويبكي بحرقة يود لو ينتفض من جسده، الذي أغرقته الغيبوبة في بحر لجي من الوجع، لعله ينفض عني غبار التراب ولفافة الكفن، ويقبل جبيني، ويهم بموادعتي الوداع الأخير.. أرى زوجي يبكيني، ويخبئ دموعاً أبت إلا أن تظهر للعيان.. وودت لو أخبره الآن أن لا مانع لدي أن يزفه الناس إلى عروس أخرى.. أرى أطفالي تعلوهم الدهشة، وأمارات الاستفهام ولسانهم لا يكف عن السؤال: أين ماما؟ ماذا تفعل في السماء؟.. آآآه إنهم يبكون بكاء الأحياء، وأنا أبكي بكاء الأموات.. ومنذ ليلتي هذه سوف يغيب عن ذاكرتي ركض الخيول الجامحة، ولست بحاجة بعد اليوم إلى دولاب ملابسي، وسوف.. لن أقبل جبين أطفالي، ولن أنتظر زوجي على فراش الغنج فعروقي الآن تذبل لقد انطفأت قناديلي.. وكل جزء من ترانيمي يدور في أفق السراب..
.. آآه.. أتحدث إليكم بهذيان غير هذيان البشر ولسان غير لسان الدم واللحم.. وإغماضتي الآن لا تعرفها عيون الأنعام، ولا أبصار البشر، ولكنها هي من أذاقتني طعم التراب، ولقنتني كيف أعيش أسفل الأرض مع الدواب.. وكيف أن ميلادي قبل ثلاثة عقود، يوم قد علم الناس كيف يحملونني، وهم يضحكون؟، وكيف أن رحيلي هذا اليوم قد لقن الناس سبيلاً كيف يحملونني وهم يبكون؟.. سأغمض عيني وأبقى طريحة القبر حتى أمد ولن ألتفت إليه.. وسأنتظر ريثما تصير الجبال عهنا، ويصير البشر فراشاً مبثوثاً.. فالموتى لا ينطقون أبداً.. ولكن ينتظرون أبداً..)
رحم الله فقيدة الوطن المبدعة (أم عبدالرحمن)، وأسكنها فسيح جناته، وألهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق