2010-01-27
منطقتنا تعاني القمع بمجال الحقوق السياسية والحريات المدنية
الديمقراطية العربية تزرع عنوة في الرمال ولا تتحول إلى أشجار تطرح الثمار
قبل نهاية السنة الميلادية تمنيت من كل قلبي أن تكون سنة 2010 مختلفة عن السنوات السابقة، رغم إنني كنت على يقين من أن هذا هو الوهم بعينه، فالمجتمعات والدول لا تتغير بالمطالب الوردية، أو عن طريق الأمنيات، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وجاءت الصدمة بعدها بأيام مضت حين نشرت منظمة فريدم هاوس تقريرها السنوي الذي يبين مدى عمق الأزمة التي تواجهنا اليوم وغدا، فقد أشار التقرير إلى التراجع الخطير في الحريات للسنة الرابعة على التوالي، واصفا هذه الفترة بأنها الأطول على مدار 40 سنة، فالمنطقة العربية تمثل أكثر المناطق التي تعاني من القمع في العالم من حيث الحقوق السياسية والحريات المدنية.
هناك تراجع في تصنيف الدول العربية التي تقدمت بضع خطوات إلى الأمام في الأعوام السابقة، وكانت الأردن من بين الدول التي سجلت تراجعاً بسبب القرار الذي صدر مؤخراً بحلّ المجلس بالبرلمان الأردني، بالإضافة إلى البحرين واليمن. فقد حصلت هذه الدول الثلاث على تصنيف "غير حرة" بعد أن كان تصنيفها السابق "حرة جزئياً". وأضاف تقرير منظمة "فريدم هاوس" أن التراجع لوحظ أيضاً في المغرب وفي الأراضي الفلسطينية. وللأسف وكما ذكر مدير المنظمة أن التراجع يأخذ طابعاً عالمياً ويؤثر سلباً على الدول التي تملك قوة اقتصادية وعسكرية والدول التي أظهرت في السابق دلائل على إمكانية الإصلاح ويصاحبه اضطهاد للمعارضين السياسيين والصحفيين المستقلين.
السؤال الذي يطرح في كل مرة هو لماذا تستعصي الدول العربية على الإصلاح، ولماذا لا تجد بذرة الديمقراطية تربة صالحة في الصحراء العربية لكي تنبت وتترعرع فيها؟! في الإجابة على هذا السؤال الأزلي نشر تقرير واشنطن في الأسبوع الماضي نص الدراسة التي أعدها لاري دياموند مدير مركز الديمقراطية والتنمية وحكم القانون في جامعة استانفورد ونشرتها "دورية الديمقراطية في يناير 2010 تحت عنوان لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية؟"، حيث تتضمن الدراسة تحليلاً للاتجاهات السائدة في تفسير عدم وجود دول ديمقراطية عربية، معللة أسباب عدم قابلية تلك التفسيرات للتعميم وافتقادها للدقة وتتبنى تفسيرا جديدا لغياب الديمقراطية في العالم العربي يقوم على الدمج بين عوامل اقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية.
وتذكر الدراسة أن موجة التحول الديمقراطي بدأت ولم يكن عدد الدول الديمقراطية يتجاوز 40 دولة، ومع بداية التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي وصل عدد تلك الدول إلى حوالي 76 دولة وبحلول عام 2002 أضحى عدد تلك الدول حوالي 118 دولة بحيث أضحت الديمقراطية النمط السائد في غالبية دول العالم باستثناء الدول العربية. فعلى الرغم من التغييرات والحراك السياسي والمدني صمدت القلعة الحصينة بالمنطقة العربية في مواجهة المد الديمقراطي الذي اجتاح النظام العالمي منذ عام 1974، الذي تعزز بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول أسباب افتقاد الزخم السياسي الداعم لعملية التحول الديمقراطي في الدول العربية المتلاصقة جغرافيَّا دون غيرها من المناطق الجغرافية في العالم، ولماذا لا توجد ديمقراطية راسخة في العالم العربي على امتداد مساحته الجغرافية؟
وتشير الدراسة إلى أن أسباب ذلك تعود لعدة عوامل أهمها:
العامل الاقتصادي، حيث تغيب المبادرة الفردية ويتضاءل دور القطاع الخاص باستثناء رجال الأعمال المرتبطين بالنخبة الحاكمة، وتحذر الدراسة من أن الدول المصدرة للنفط قد تعاني مما يسمى "الداء الهولندي" Dutch Disease، نتيجة وفرة الموارد الاقتصادية وغياب دور القطاع الخاص، واعتماد المواطن بصورة شبه كاملة على الدولة لتوفير مختلف احتياجاته، بما يؤدي لحالة من التراخي وانتشار أنماط الحياة الاستهلاكية وتراجع ثقافة الإنتاج وتوجيه الاستثمار والعائدات النفطية إلى قطاعات خدمية وليست إنتاجية.
العامل السياسي، حيث يعد احتكار السلطة السياسية أحد أهم السمات المشتركة بين دول المنطقة العربية في ظل تأييد القوى الخارجية لاستمرار التسلطية السياسية حفاظا على الاستقرار السياسي، ومما يعزز سلطوية النظم الحاكمة في العالم العربي استغلالها لاحتكار الدولة لأدوات القهر السياسي المتمثلة في قوات الشرطة والمخابرات وتوظيفها لقمع المعارضة السياسية للحفاظ على بقائهم في السلطة، بحيث تصنف غالبية الدول العربية ضمن أعلى دول العالم من حيث مستوى الإنفاق على الأمن، بيد أن النظم العربية الحاكمة لا تمارس القمع السياسي بصورة دائمة وإنما تعتمد على عدة آليات بصورة متزامنة مثل استقطاب بعض قيادات المعارضة والسماح بقدر محدود من التمثيل السياسي وإجراء انتخابات بصفة دورية حتى وإن كانت غير نزيهة وهو ما يطلق عليه إجراءات التكيف السلطوية، التي يتم اتخاذها للتواؤم مع المتغيرات الداخلية والخارجية، فعقب السماح بقدر محدود من الحريات السياسية بما يسمح للمعارضة السياسية بممارسة نشاط فعال لفترة مؤقتة يعود بعدها النظام الحاكم لقمع الحريات وتضييق الخناق على الأنشطة السياسية للمعارضة. أما المعارضة السياسية في الدول العربية فتواجه معضلة معقدة، فهي إن شاركت بفاعلية في الانتخابات والبرلمان يتم اتهامها من جانب القوى الراديكالية بإضفاء الشرعية على ممارسات النظام الحاكم والمشاركة في النظام السياسي السلطوي وإن امتنعت عن المشاركة على سبيل الاحتجاج يتم اتهامها بالسلبية السياسية وعدم الفاعلية، ناهيك عن أن عوامل الضعف الهيكلية في بنية المعارضة السياسية تكون كفيلة بجعل دورها هامشيا، لاسيما انقسامها إلى جبهات متضادة والإطار القانوني غير التنافسي وافتقاد غالبيتها للدعم الشعبي باستثناء القوى السياسية الإسلامية.
العامل القومي: حيث تسهم عدة عوامل أخرى في تعزيز احتكار السلطة السياسية من أهمها القضية الفلسطينية التي يتم توظيفها لصرف انتباه الشعوب عن قضايا الإصلاح الداخلي وتردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية، ومن ثم تركز وسائل الإعلام العربية على الممارسات الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين وتغيب عن خطابها قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطية، أما الإطار المؤسسي الذي يجمع الدول العربية، وهو جامعة الدول العربية فيضع الديمقراطية وحقوق الإنسان خارج نطاق اختصاصها أو نشاطها الذي يركز على الاستقرار ويتسم بقدر كبير من المحافظة.
العامل الخارجي: حيث إن نتيجة العوامل الاقتصادية والسياسية والإقليمية مع العوامل الجيواستراتيجية أدت إلى استمرار حالة الجمود في الدول العربية، حيث يدفع تركز الاحتياطات النفطية في المنطقة مختلف الأطراف الدولية للتدخل لحماية مصالحها، خاصة الولايات المتحدة ويكون النمط الغالب للتدخل الدولي محاولة الحفاظ على الاستقرار السياسي ودعم النظم السلطوية الحاكمة، وتستخدم في هذا الصدد آليات من قبيل المساعدات العسكرية والاقتصادية والدعم العسكري ومبيعات السلاح.
وتشير النتائج والتوصيات التي طرحتها الدراسة إلى نهاية دراماتيكية لا نعرف مدى عواقبها ومخرجاتها، حيث تذكر انه إذا انخفضت أسعار البترول أوتم إيجاد بدائل للطاقة تتسم بانخفاض التكلفة، فإن النظم الحاكمة للدول المنتجة للنفط ستجد ذاتها مضطرة لإبرام عقد اجتماعي جديد مع شعوبها تقوم على التشارك في السلطة والتمثيل السياسي بما ينهي فترة احتكار تلك النخب للسلطة السياسية.
الفيلسوف الألماني المشهور (ايمونيل كانت) يقول، (إذا أريد إصلاح أمر من الأمور فهناك حلان: أما أن ينصلح حال القائمين عليه.. وأما أن يتفكك هذا الأمر إلى أجزاء يعاد تركيبها من الأساس عن نحو مختلف)، إن مشكلة الديمقراطية في العالم العربي أنها تزرع عنوة في الرمال العربية المتحركة لكي تتحول إلى أخشاب للعطار وليست أشجارا حقيقية تطرح الثمار.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
الأربعاء، 27 يناير 2010
الأربعاء، 20 يناير 2010
بناء القيم السلوكية في التجربة التعليمية اليابانية
المستقلة2010-01-20
ما يميز تجربة المنظومة التعليمية اليابانية هو التركيز والاستثمار في العنصر البشري في التنمية (يبلغ عدد سكان اليابان 127 مليون نسمة) والذي يعد المورد الرئيسي الذي تعتمد عليه اليابان في ظل غياب الموارد الطبيعية الأخرى وتعرض البلاد إلى الكوارث المناخية مما يهدد الحاضر والمستقبل بشكل مستمر، وقد بدأت الإصلاحات الجذرية في النظام التعليمي الياباني بعد الهزيمة التي تعرضت لها في الحرب العالمية الثانية والتي تشبه الهزائم التي تعرضت لها الدول العربية مع بعض الفوارق، فعوضا عن المواجهة والمراجعة والدخول في مرحلة الإصلاحات والتغييرات تم الالتفاف على الهزائم العربية وسميت بمصطلحات كثيرة منها "نكبة، نكسة، وعكة، تراجع، تعثر"، ولا يزال حراس المعبد وسحرة فرعون إلى اليوم لهم القدرة على تحويل الحبال إلى أفاعي والأفاعي إلى حبال.. حبال لا تزال تلتف حول رقابنا كلما حاول أحد منا أن يتجرأ على إيجاد إجابات شافية على سؤال العرب والمسلمين المصيري: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟؟!!
كثيرًا ما يقال إن نظام التعليم الياباني قبل الحرب العالمية الثانية كان يعتمد على الحفظ عن ظهر قلب، ويقال اليوم إنه يتسم بالمرونة والذكاء والمبادرة بدرجة كبيرة إلا أن أهم ما يعتمد عليه هو تعزيز دور الأخلاق وتنمية السلوك وتقويمه. يشير السفير البحريني في طوكيو خليل حسن، إلى أن الطفل الياباني يتعلم في الحضانة والمدرسة أخلاقيات السلوك، باحترام الآخرين، والتعاون معهم بتناغم جميل، مع تقدير الوقت وقدسية العمل، كما يتعلم مهارات أدب الكلام. وتعتمد مهارة المخاطبة على احترام الوقت، كما يتعلم الطفل الياباني التركيز على السمع، للاستفادة، وقلة الكلام، للحفاظ على الوقت، وتقليل فرص الخلاف ويدرب الطالب، منذ الصغر، على مسئولية العمل، وذلك بمحافظته على نظافة المدرسة وكنس صفوفها وزرع حدائقها، ورعاية حيواناتها. وتطور أحاسيسه الروحية بتعلم احترام جميع الثقافات والأديان، والتدرب في تذوق الشعر والموسيقى وزيارة المعابد والمتاحف. وحينما يكمل الطالب المرحلة المتوسطة يتعرف على مهاراته الخاصة من خلال استبيان يبين إمكاناته الشخصية والذهنية، يساعده في اختيار اختصاصه المستقبلي. ويتوجه ما يقارب الثلث من طلبة المدارس المتوسطة للمعاهد التكنولوجية والزراعية، بينما يكمل الباقي الدراسة الثانوية. ويتقدم الطلبة بعد النجاح في الثانوية لامتحان عام يقيم إمكانياتهم اللغوية وقدرات حلهم للمعضلات العلمية والاجتماعية، لتحدد درجات هذا الامتحان، الكليات التي سينتسبون إليها.
ومما يميز التجربة التعليمية اليابانية السلوكية أيضا ما أشار إليه الدكتور شهاب فارس — أستاذ اللغة اليابانية المساعد (كلية اللغات والترجمة — جامعة الملك سعود) من انه لا يوجد في المدارس حارس أو ناطور أو فراش ولا حتى عمال نظافة، ولذا يأخذ التلاميذ والطلاب والمعلمون على عاتقهم تنظيف المدرسة وتجميل مظهرها الداخلي والخارجي، بل يمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة أيضًا وذلك بتعاون الجميع وفي أوقات منتظمة ومحددة، كما أنه لا توجد مقاصف في المدارس اليابانية، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية وعدد من الطاهيات حيث يتناول التلاميذ وجبات طازجة تُطهى يوميًا بالمدرسة. ويقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة، وفي نهاية اليوم الدراسي يعقد التلاميذ جلسة جماعية يسألون أنفسهم فيها عما إذا كانوا قد أتموا عملهم اليوم على أكمل وجه أم لا؟ أم أن هناك قصورًا فيما قاموا به من أعمال؟ أو هل كانت هناك مشاكل ما؟ ولا شك أن هذه الطريقة في التعليم تستهدف روح الجماعة وتحمُّل المسؤولية والالتزام والقيادة، كما تشكل أيضًا قوة نفسية رادعة لكبح جماح السلوكيات الاجتماعية غير اللائقة تجاه المجتمع والغير.
إحدى المبادرات العربية المميزة التي قرأت عنها في الآونة الأخيرة جاءت من الإدارة العامة للتربية وتعليم البنات بمنطقة نجران في السعودية وتمثلت المبادرة في اطلاق مشروع تربوي بعنوان (التربية قبل التعليم) تمثلت فكرته في قياس سلوكيات الطالبات في مواقف تربوية مختلفة وتقويمها بهدف ترسيخ مبدأ أهمية التربية داخل المدرسة، واشتمل المشروع على تخصيص حوارات تربوية وبرامج إذاعية مدرسية، وإعداد مطبوعات توعوية تربوية ولافتات حائطية تدفع الطالبات للتمسك بالأخلاق الحميدة وتعاليم الدين الحضارية، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ومهرجانات ومسرحيات ذات مؤثرات مناسبة وتوثيق النشاط بملف خاص بالمسرح التربوي، وتجهيز مكان مخصص لورش العمل، وقد أشرفت على المشروع عدة لجان تنظيمية هي، لجنة الإذاعة والمسرح التربوي ولجنة التقييم والقياس ولجنة التوعية والدعاية والإعلام، قامت كل لجنة منها بمهامها الخاصة التي أسهمت في نجاح المشروع، حيث اهتمت لجنة التوعية والدعاية والإعلام بالتوعية بالمشروع والدعاية والإعلان لبرامجه منذ بدايته ومتابعته في مختلف مراحله، أما لجنة الإذاعة والمسرح التربوي فقد اهتمت بتنقيح المشاهد التربوية وتدريب الطالبات واختيار المؤثرات اللازمة، أما لجنة التقييم والقياس فعملت على إعداد استمارات التحضير التربوي اليومية التي تقيس مدى نجاحه وطرح الحلول المناسبة لأي معوقات تطرأ عليه. وقد أشاد أولياء الأمور بهذا المشروع من خلال استمارات التقييم التي وزعت عليهم ووصفوا التغير الذي طرأ على بناتهم الطالبات المشاركات في هذا المشروع ومدى تأثيرهن على اخوتهن في بيئة المنزل. وبعد نجاح التجربة تسعى الإدارة التعليمية إلي تعميم التجربة وتطبيقها في المدارس الأخرى.
إن ما تحتاجه المبادرة القطرية في التعليم لمرحلة جديدة هو الاهتمام والتركيز على بناء القيم السلوكية التي نراها معدومة أو غائبة في المدارس المستقلة التابعة للحكومة أو حتى المدارس الخاصة والأهلية، فالسلوكيات هي الرابط ما بين الطالب أو الطالبة والمدرسة التي يقضون فيها معظم أوقاتهم في التعلم والدراسة واكتساب المهارات المختلفة التي تؤهلهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع في المستقبل. ان المبادرة التعليمية بحاجة إلى تقديم جرعات أكبر لتأصيل القيم الأخلاقية والتربوية وتغيير السلوكيات السلبية من خلال تضافر جهود الجميع في وزارة التربية والتعليم والمدرسة ومشاركة أولياء الأمور وبعض المؤسسات والأفراد ليتم نشرها وتثبيتها وممارستها لدى الأبناء، وذلك لتصبح جزءا أصيلا في سلوكهم وتعاونهم مع بعضهم البعض لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة ويمكن البدء في هذا المشروع من خلال المشاركة في وضع ميثاق القيم السلوكية والأخلاقية (Code of Conduct)، وأتمنى من كل قلبي أن يأتي اليوم الذي أقارن فيه سلوكيات الطلاب في إحدى المدارس في قطر أو العالم العربي بنظيرتها في اليابان.. ويا حبذا لو يكون ذلك اليوم قريبا رغم أننا نراه بعيداً بعيداً.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
ما يميز تجربة المنظومة التعليمية اليابانية هو التركيز والاستثمار في العنصر البشري في التنمية (يبلغ عدد سكان اليابان 127 مليون نسمة) والذي يعد المورد الرئيسي الذي تعتمد عليه اليابان في ظل غياب الموارد الطبيعية الأخرى وتعرض البلاد إلى الكوارث المناخية مما يهدد الحاضر والمستقبل بشكل مستمر، وقد بدأت الإصلاحات الجذرية في النظام التعليمي الياباني بعد الهزيمة التي تعرضت لها في الحرب العالمية الثانية والتي تشبه الهزائم التي تعرضت لها الدول العربية مع بعض الفوارق، فعوضا عن المواجهة والمراجعة والدخول في مرحلة الإصلاحات والتغييرات تم الالتفاف على الهزائم العربية وسميت بمصطلحات كثيرة منها "نكبة، نكسة، وعكة، تراجع، تعثر"، ولا يزال حراس المعبد وسحرة فرعون إلى اليوم لهم القدرة على تحويل الحبال إلى أفاعي والأفاعي إلى حبال.. حبال لا تزال تلتف حول رقابنا كلما حاول أحد منا أن يتجرأ على إيجاد إجابات شافية على سؤال العرب والمسلمين المصيري: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟؟!!
كثيرًا ما يقال إن نظام التعليم الياباني قبل الحرب العالمية الثانية كان يعتمد على الحفظ عن ظهر قلب، ويقال اليوم إنه يتسم بالمرونة والذكاء والمبادرة بدرجة كبيرة إلا أن أهم ما يعتمد عليه هو تعزيز دور الأخلاق وتنمية السلوك وتقويمه. يشير السفير البحريني في طوكيو خليل حسن، إلى أن الطفل الياباني يتعلم في الحضانة والمدرسة أخلاقيات السلوك، باحترام الآخرين، والتعاون معهم بتناغم جميل، مع تقدير الوقت وقدسية العمل، كما يتعلم مهارات أدب الكلام. وتعتمد مهارة المخاطبة على احترام الوقت، كما يتعلم الطفل الياباني التركيز على السمع، للاستفادة، وقلة الكلام، للحفاظ على الوقت، وتقليل فرص الخلاف ويدرب الطالب، منذ الصغر، على مسئولية العمل، وذلك بمحافظته على نظافة المدرسة وكنس صفوفها وزرع حدائقها، ورعاية حيواناتها. وتطور أحاسيسه الروحية بتعلم احترام جميع الثقافات والأديان، والتدرب في تذوق الشعر والموسيقى وزيارة المعابد والمتاحف. وحينما يكمل الطالب المرحلة المتوسطة يتعرف على مهاراته الخاصة من خلال استبيان يبين إمكاناته الشخصية والذهنية، يساعده في اختيار اختصاصه المستقبلي. ويتوجه ما يقارب الثلث من طلبة المدارس المتوسطة للمعاهد التكنولوجية والزراعية، بينما يكمل الباقي الدراسة الثانوية. ويتقدم الطلبة بعد النجاح في الثانوية لامتحان عام يقيم إمكانياتهم اللغوية وقدرات حلهم للمعضلات العلمية والاجتماعية، لتحدد درجات هذا الامتحان، الكليات التي سينتسبون إليها.
ومما يميز التجربة التعليمية اليابانية السلوكية أيضا ما أشار إليه الدكتور شهاب فارس — أستاذ اللغة اليابانية المساعد (كلية اللغات والترجمة — جامعة الملك سعود) من انه لا يوجد في المدارس حارس أو ناطور أو فراش ولا حتى عمال نظافة، ولذا يأخذ التلاميذ والطلاب والمعلمون على عاتقهم تنظيف المدرسة وتجميل مظهرها الداخلي والخارجي، بل يمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة أيضًا وذلك بتعاون الجميع وفي أوقات منتظمة ومحددة، كما أنه لا توجد مقاصف في المدارس اليابانية، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية وعدد من الطاهيات حيث يتناول التلاميذ وجبات طازجة تُطهى يوميًا بالمدرسة. ويقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة، وفي نهاية اليوم الدراسي يعقد التلاميذ جلسة جماعية يسألون أنفسهم فيها عما إذا كانوا قد أتموا عملهم اليوم على أكمل وجه أم لا؟ أم أن هناك قصورًا فيما قاموا به من أعمال؟ أو هل كانت هناك مشاكل ما؟ ولا شك أن هذه الطريقة في التعليم تستهدف روح الجماعة وتحمُّل المسؤولية والالتزام والقيادة، كما تشكل أيضًا قوة نفسية رادعة لكبح جماح السلوكيات الاجتماعية غير اللائقة تجاه المجتمع والغير.
إحدى المبادرات العربية المميزة التي قرأت عنها في الآونة الأخيرة جاءت من الإدارة العامة للتربية وتعليم البنات بمنطقة نجران في السعودية وتمثلت المبادرة في اطلاق مشروع تربوي بعنوان (التربية قبل التعليم) تمثلت فكرته في قياس سلوكيات الطالبات في مواقف تربوية مختلفة وتقويمها بهدف ترسيخ مبدأ أهمية التربية داخل المدرسة، واشتمل المشروع على تخصيص حوارات تربوية وبرامج إذاعية مدرسية، وإعداد مطبوعات توعوية تربوية ولافتات حائطية تدفع الطالبات للتمسك بالأخلاق الحميدة وتعاليم الدين الحضارية، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ومهرجانات ومسرحيات ذات مؤثرات مناسبة وتوثيق النشاط بملف خاص بالمسرح التربوي، وتجهيز مكان مخصص لورش العمل، وقد أشرفت على المشروع عدة لجان تنظيمية هي، لجنة الإذاعة والمسرح التربوي ولجنة التقييم والقياس ولجنة التوعية والدعاية والإعلام، قامت كل لجنة منها بمهامها الخاصة التي أسهمت في نجاح المشروع، حيث اهتمت لجنة التوعية والدعاية والإعلام بالتوعية بالمشروع والدعاية والإعلان لبرامجه منذ بدايته ومتابعته في مختلف مراحله، أما لجنة الإذاعة والمسرح التربوي فقد اهتمت بتنقيح المشاهد التربوية وتدريب الطالبات واختيار المؤثرات اللازمة، أما لجنة التقييم والقياس فعملت على إعداد استمارات التحضير التربوي اليومية التي تقيس مدى نجاحه وطرح الحلول المناسبة لأي معوقات تطرأ عليه. وقد أشاد أولياء الأمور بهذا المشروع من خلال استمارات التقييم التي وزعت عليهم ووصفوا التغير الذي طرأ على بناتهم الطالبات المشاركات في هذا المشروع ومدى تأثيرهن على اخوتهن في بيئة المنزل. وبعد نجاح التجربة تسعى الإدارة التعليمية إلي تعميم التجربة وتطبيقها في المدارس الأخرى.
إن ما تحتاجه المبادرة القطرية في التعليم لمرحلة جديدة هو الاهتمام والتركيز على بناء القيم السلوكية التي نراها معدومة أو غائبة في المدارس المستقلة التابعة للحكومة أو حتى المدارس الخاصة والأهلية، فالسلوكيات هي الرابط ما بين الطالب أو الطالبة والمدرسة التي يقضون فيها معظم أوقاتهم في التعلم والدراسة واكتساب المهارات المختلفة التي تؤهلهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع في المستقبل. ان المبادرة التعليمية بحاجة إلى تقديم جرعات أكبر لتأصيل القيم الأخلاقية والتربوية وتغيير السلوكيات السلبية من خلال تضافر جهود الجميع في وزارة التربية والتعليم والمدرسة ومشاركة أولياء الأمور وبعض المؤسسات والأفراد ليتم نشرها وتثبيتها وممارستها لدى الأبناء، وذلك لتصبح جزءا أصيلا في سلوكهم وتعاونهم مع بعضهم البعض لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة ويمكن البدء في هذا المشروع من خلال المشاركة في وضع ميثاق القيم السلوكية والأخلاقية (Code of Conduct)، وأتمنى من كل قلبي أن يأتي اليوم الذي أقارن فيه سلوكيات الطلاب في إحدى المدارس في قطر أو العالم العربي بنظيرتها في اليابان.. ويا حبذا لو يكون ذلك اليوم قريبا رغم أننا نراه بعيداً بعيداً.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
الأربعاء، 13 يناير 2010
مكافآت وبدلات أعضاء مجالس الإدارات العربية
2010-01-14
في الأسبوع قبل الماضي وفي أشهر برنامج في أمريكا (ستون دقيقة) في شبكة "سي بي اس (CBS's "60 Minutes)، جاء أشرس هجوم على لسان الرئيس الأميركي باراك اوباما حين أطلق مصطلح "القطط السمينة" (Fat Cat) على الذين يحصلون على مكافآت مصرفية كبيرة، معربا عن غضبه من اعتزام المصارف التي أنقذتها الحكومة بأموال دافعي الضرائب منح مكافآت ضخمة لموظفيها بينما يعاني المواطنون من الديون. الإشكالية التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي ووصل تأثيرة إلى دول العالم المختلفة والى أسواق الدوحة والبنوك القطرية، تتمثل في أن الرواتب والمكآفات المجزية التي تمنحها المؤسسات المالية كانت من الأسباب الرئيسية في التشجيع على الإقدام على مغامرات استثمارية مبالغ فيها، وهي أدت إضافة إلى أزمة الرهن العقاري إلى حدوث الأزمة المالية الدولية، ودفعت القطاع المالي الأميركي إلى حافة الانهيار قبل عام. أما اللعبة الجديدة التي يلعبها القطط السمان بعد الاستقرار شبه المعقول في الأزمة وليس احتواءها، هو في أنها أعادت بعض الأموال التي أقرضتها لها الحكومة لمنعها من الانهيار خلال الأزمة المالية، من أجل التهرب من الضوابط الحكومية التي ترعى المكافآت كما حدث في بعض البنوك وهو الأمر الذي وصفه أوباما بقوله "بعض الناس لم يستوعبوا الأمر بعد ومازالوا يتساءلون لماذا الناس غاضبة"؟؟!!
في الأسبوع نفسه أوصى تقرير مصرفي بريطاني بأن تفصح كبرى البنوك في البلاد عن المبالغ التي تدفعها لكبار موظفيها، إذا تجاوزت 1.65 مليون دولار. والتقرير عبارة عن توصيات أعدها ديفيد ووكر رئيس مجلس الإدارة السابق للوحدة الدولية لبنك مورغان ستانلي وقدمها للحكومة البريطانية، بعد موجة غضب شعبي من ارتفاع علاوات ورواتب مسؤولي البنوك الكبار. من جانبها ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون تعهد باتخاذ "إجراءات صارمة" بشأن المكافآت المبالغ فيها في القطاع المالي في إطار مسعى دولي. وفي مقابلة نشرتها الصحيفة على صدر صفحتها الأولى قال براون إن الرواتب والمكافآت يجب ان تدفع على اساس النتائج على المدى الطويل وليس المكاسب عن طريق المضاربات وانه يجب على البنوك أن تسترد المكافآت إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية؟!
نشرت أرقـام بزنس إنفو، وهو موقع الكتروني متخصص بتقديم المعلومات المالية والأخبار الاقتصـادية المتعلقـة بأسـواق الأسـهم في منطقة الخليج والشـركات المدرجة فيها، دراسة حول المكافآت والتعويضات التي حصل عليها كبار التنفيذيين في الشركات السعودية المساهمة، وكشفت أن مسئولين في شركات "ساب" و"الكابلات" و "صافولا" و"الأبحاث والتسويق" قد حصلوا على أعلى المكافآت. وأظهرت الدراسة أن كبار التنفيذيين في 7 بنوك سعودية و3 شركات أخرى (موبايلي، إعمار، البحر الأحمر) قد جاءوا في رأس القائمة. وكانت مجموعة سامبا الأكثر سخاء، حيث بلغت مكافآت ستة من التنفيذيين الكبار 47.6 مليون ريال من ضمنهم الرئيس التنفيذي للمجموعة؟!
في قطر أعلن وزير المالية منذ فترة أن وزارته ستنفق 900 مليون دولار على شراء حصة 5% في بعض البنوك المحلية قبل نهاية العام وهو القرار المستند إلى قرار اتخذته هيئة الاستثمار القطرية العام الماضي لشراء ما بين 10 - 20 % من أسهم البنوك المدرجة بالإضافة إلى شراء المحافظ المتعثرة وبعض المديونيات غير القادرة على الدفع، وبتاريخ 23/12/2009 ذكر تقرير لمجموعة "كريدت سويس" (Credit Suisse) المصرفية، أوردته نشرة "داو جونز"، أن المصارف القطرية قد تعاني من انكشافها على مجموعة دبي العالمية المثقلة بالديون والتي تسعى جاهدة لإعادة جدولة ديون مترتبة عليها بقيمة تلامس 22 مليار دولار، وأشار التقرير إلى أنه رغم إعلان عدد من المصارف القطرية، منها البنك التجاري القطري وبنك قطر الدولي الإسلامي وبنك الدوحة، عن عدم انكشافها لمجموعة دبي العالمية أو الشركات التابعة لها (ولا نعرف اين تقف هذه البنوك في نشاطاتها الأخرى في الدول الخليجية أو العربية أو الأجنبية)، إلا أن مصرف قطر الإسلامي، وعلى عكس البنوك المذكورة، كشف في بداية شهر ديسمبر الجاري عن تعرضه لمجموعة دبي العالمية بمبلغ يلامس ( 54 مليون ريال قطري) في شكل مساهمة في صكوك إسلامية متداولة مغطاة بأصول عينية مستحقة السداد في عام 2017.
وحسنا فعل مجلس الشورى القطري في طرح موضوع مكافآت وبدلات أعضاء مجالس إدارات البنوك والشركات المساهمة العامة، واعتقد أنها خطوة صحيحة يجب أن تتبعها خطوات في تقييم ومراجعة وضع القوانين و الضوابط و معايير الحوكمة للنظام في المؤسسات والشركات والبنوك التي تملك فيها الدولة حصصا واسهما ومحافظ، وصياغة معايير واليات واضحة ومحددة لمواجهة القطط السمان، فالرواتب والمكافآت يجب أن تقدم على أساس النتائج طويلة المدى وليس من خلال المضاربات في البورصة والعقارات وأن يتم استردادها إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية.
بات من الواضح أن السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية العالمية يعود إلى غياب الضوابط والمعايير والقوانين التي تحكم المسئولين ومديري وأعضاء وأصحاب النشاط الاقتصادي المصرفي والأذرع التابعة له من مؤسسات مالية وشركات مساهمة وأسواق نقدية ومالية، كما أشار لذلك الدكتور غسان قلعاوي، فهم لم يتعلموا الدرس وعادوا بعد تهدئة الأزمة والحصول على المساعدات و التمويل والسيولة من قبل الحكومات من الميزانيات الاحتياطية وصندوق الأجيال و دافعي الضرائب إلى معالجة الأزمة بنفس الأساليب التي أدت إليها من إصرار على تغليب هدف الربحية والأجور العالية والاستثمارات التي تغلب عليها صفة المضاربة وارتفاع مستويات الخطر والتوسع في الإقراض وطلب المزيد من الدعم والسيولة من قبل الحكومات؟؟!! وهي أساليب بعيدة عن عوامل الأمان والسلامة التي تكفل الحفاظ على الأموال باعتباره الهدف الأول للنشاط المصرفي.
النشاط الاقتصادي وخصوصا البنوك وبعض المؤسسات المساهمة بشكل عام وعندنا في الخليج وفي قطر بوجه خاص تجاور الحدود والقوانين التي صيغت لضبطه باعتباره نشاطاً أميناً على حفظ أموال الجمهور قبل العمل على تنمية أرباح ملاكه وأجور مديريه والمسئولين الكبار فيه، وكان تجاوزه مقترنا بتساهل أو بتغاضي السلطات المالية والنقدية المسؤولة، بل بتمهيد وتشجيع منها في معظم الأحيان في ظل عهد طفرة الاستثمار المنفلت.
ما الحل إذا، وكيف تتم مواجهة الإشكاليات المطروحة؟.. أعود مرة أخرى لرؤية الدكتور غسان قلعاوي الذي طالب بالعودة إلى الالتزام بالضوابط الدولية وعدم تجاوزها أو القفز عليها، أهمها كفاية رأس المال وتكوين الاحتياطيات الخاصة وأداء الاحتياطيات الإلزامية وحظر الأنشطة والأعمال غير المصرفية كممارسة التجارة أو الصناعة أو امتلاك البضائع والمتاجرة بها أو شراء العقارات أو تملك الأسهم أو المتاجرة بها، أو المساهمة في تمويل إنشاء عقارات سكنية أو تجارية إلا في حالات خاصة وضمن حدود معينة ولمدد محددة، ليعود النشاط كما كان في سابق عهده كأمين على ودائع وأموال الناس.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
في الأسبوع قبل الماضي وفي أشهر برنامج في أمريكا (ستون دقيقة) في شبكة "سي بي اس (CBS's "60 Minutes)، جاء أشرس هجوم على لسان الرئيس الأميركي باراك اوباما حين أطلق مصطلح "القطط السمينة" (Fat Cat) على الذين يحصلون على مكافآت مصرفية كبيرة، معربا عن غضبه من اعتزام المصارف التي أنقذتها الحكومة بأموال دافعي الضرائب منح مكافآت ضخمة لموظفيها بينما يعاني المواطنون من الديون. الإشكالية التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي ووصل تأثيرة إلى دول العالم المختلفة والى أسواق الدوحة والبنوك القطرية، تتمثل في أن الرواتب والمكآفات المجزية التي تمنحها المؤسسات المالية كانت من الأسباب الرئيسية في التشجيع على الإقدام على مغامرات استثمارية مبالغ فيها، وهي أدت إضافة إلى أزمة الرهن العقاري إلى حدوث الأزمة المالية الدولية، ودفعت القطاع المالي الأميركي إلى حافة الانهيار قبل عام. أما اللعبة الجديدة التي يلعبها القطط السمان بعد الاستقرار شبه المعقول في الأزمة وليس احتواءها، هو في أنها أعادت بعض الأموال التي أقرضتها لها الحكومة لمنعها من الانهيار خلال الأزمة المالية، من أجل التهرب من الضوابط الحكومية التي ترعى المكافآت كما حدث في بعض البنوك وهو الأمر الذي وصفه أوباما بقوله "بعض الناس لم يستوعبوا الأمر بعد ومازالوا يتساءلون لماذا الناس غاضبة"؟؟!!
في الأسبوع نفسه أوصى تقرير مصرفي بريطاني بأن تفصح كبرى البنوك في البلاد عن المبالغ التي تدفعها لكبار موظفيها، إذا تجاوزت 1.65 مليون دولار. والتقرير عبارة عن توصيات أعدها ديفيد ووكر رئيس مجلس الإدارة السابق للوحدة الدولية لبنك مورغان ستانلي وقدمها للحكومة البريطانية، بعد موجة غضب شعبي من ارتفاع علاوات ورواتب مسؤولي البنوك الكبار. من جانبها ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون تعهد باتخاذ "إجراءات صارمة" بشأن المكافآت المبالغ فيها في القطاع المالي في إطار مسعى دولي. وفي مقابلة نشرتها الصحيفة على صدر صفحتها الأولى قال براون إن الرواتب والمكافآت يجب ان تدفع على اساس النتائج على المدى الطويل وليس المكاسب عن طريق المضاربات وانه يجب على البنوك أن تسترد المكافآت إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية؟!
نشرت أرقـام بزنس إنفو، وهو موقع الكتروني متخصص بتقديم المعلومات المالية والأخبار الاقتصـادية المتعلقـة بأسـواق الأسـهم في منطقة الخليج والشـركات المدرجة فيها، دراسة حول المكافآت والتعويضات التي حصل عليها كبار التنفيذيين في الشركات السعودية المساهمة، وكشفت أن مسئولين في شركات "ساب" و"الكابلات" و "صافولا" و"الأبحاث والتسويق" قد حصلوا على أعلى المكافآت. وأظهرت الدراسة أن كبار التنفيذيين في 7 بنوك سعودية و3 شركات أخرى (موبايلي، إعمار، البحر الأحمر) قد جاءوا في رأس القائمة. وكانت مجموعة سامبا الأكثر سخاء، حيث بلغت مكافآت ستة من التنفيذيين الكبار 47.6 مليون ريال من ضمنهم الرئيس التنفيذي للمجموعة؟!
في قطر أعلن وزير المالية منذ فترة أن وزارته ستنفق 900 مليون دولار على شراء حصة 5% في بعض البنوك المحلية قبل نهاية العام وهو القرار المستند إلى قرار اتخذته هيئة الاستثمار القطرية العام الماضي لشراء ما بين 10 - 20 % من أسهم البنوك المدرجة بالإضافة إلى شراء المحافظ المتعثرة وبعض المديونيات غير القادرة على الدفع، وبتاريخ 23/12/2009 ذكر تقرير لمجموعة "كريدت سويس" (Credit Suisse) المصرفية، أوردته نشرة "داو جونز"، أن المصارف القطرية قد تعاني من انكشافها على مجموعة دبي العالمية المثقلة بالديون والتي تسعى جاهدة لإعادة جدولة ديون مترتبة عليها بقيمة تلامس 22 مليار دولار، وأشار التقرير إلى أنه رغم إعلان عدد من المصارف القطرية، منها البنك التجاري القطري وبنك قطر الدولي الإسلامي وبنك الدوحة، عن عدم انكشافها لمجموعة دبي العالمية أو الشركات التابعة لها (ولا نعرف اين تقف هذه البنوك في نشاطاتها الأخرى في الدول الخليجية أو العربية أو الأجنبية)، إلا أن مصرف قطر الإسلامي، وعلى عكس البنوك المذكورة، كشف في بداية شهر ديسمبر الجاري عن تعرضه لمجموعة دبي العالمية بمبلغ يلامس ( 54 مليون ريال قطري) في شكل مساهمة في صكوك إسلامية متداولة مغطاة بأصول عينية مستحقة السداد في عام 2017.
وحسنا فعل مجلس الشورى القطري في طرح موضوع مكافآت وبدلات أعضاء مجالس إدارات البنوك والشركات المساهمة العامة، واعتقد أنها خطوة صحيحة يجب أن تتبعها خطوات في تقييم ومراجعة وضع القوانين و الضوابط و معايير الحوكمة للنظام في المؤسسات والشركات والبنوك التي تملك فيها الدولة حصصا واسهما ومحافظ، وصياغة معايير واليات واضحة ومحددة لمواجهة القطط السمان، فالرواتب والمكافآت يجب أن تقدم على أساس النتائج طويلة المدى وليس من خلال المضاربات في البورصة والعقارات وأن يتم استردادها إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية.
بات من الواضح أن السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية العالمية يعود إلى غياب الضوابط والمعايير والقوانين التي تحكم المسئولين ومديري وأعضاء وأصحاب النشاط الاقتصادي المصرفي والأذرع التابعة له من مؤسسات مالية وشركات مساهمة وأسواق نقدية ومالية، كما أشار لذلك الدكتور غسان قلعاوي، فهم لم يتعلموا الدرس وعادوا بعد تهدئة الأزمة والحصول على المساعدات و التمويل والسيولة من قبل الحكومات من الميزانيات الاحتياطية وصندوق الأجيال و دافعي الضرائب إلى معالجة الأزمة بنفس الأساليب التي أدت إليها من إصرار على تغليب هدف الربحية والأجور العالية والاستثمارات التي تغلب عليها صفة المضاربة وارتفاع مستويات الخطر والتوسع في الإقراض وطلب المزيد من الدعم والسيولة من قبل الحكومات؟؟!! وهي أساليب بعيدة عن عوامل الأمان والسلامة التي تكفل الحفاظ على الأموال باعتباره الهدف الأول للنشاط المصرفي.
النشاط الاقتصادي وخصوصا البنوك وبعض المؤسسات المساهمة بشكل عام وعندنا في الخليج وفي قطر بوجه خاص تجاور الحدود والقوانين التي صيغت لضبطه باعتباره نشاطاً أميناً على حفظ أموال الجمهور قبل العمل على تنمية أرباح ملاكه وأجور مديريه والمسئولين الكبار فيه، وكان تجاوزه مقترنا بتساهل أو بتغاضي السلطات المالية والنقدية المسؤولة، بل بتمهيد وتشجيع منها في معظم الأحيان في ظل عهد طفرة الاستثمار المنفلت.
ما الحل إذا، وكيف تتم مواجهة الإشكاليات المطروحة؟.. أعود مرة أخرى لرؤية الدكتور غسان قلعاوي الذي طالب بالعودة إلى الالتزام بالضوابط الدولية وعدم تجاوزها أو القفز عليها، أهمها كفاية رأس المال وتكوين الاحتياطيات الخاصة وأداء الاحتياطيات الإلزامية وحظر الأنشطة والأعمال غير المصرفية كممارسة التجارة أو الصناعة أو امتلاك البضائع والمتاجرة بها أو شراء العقارات أو تملك الأسهم أو المتاجرة بها، أو المساهمة في تمويل إنشاء عقارات سكنية أو تجارية إلا في حالات خاصة وضمن حدود معينة ولمدد محددة، ليعود النشاط كما كان في سابق عهده كأمين على ودائع وأموال الناس.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
مكافآت وبدلات أعضاء مجالس الإدارات
2010-01-14
في الأسبوع قبل الماضي وفي أشهر برنامج في أمريكا (ستون دقيقة) في شبكة "سي بي اس (CBS's "60 Minutes)، جاء أشرس هجوم على لسان الرئيس الأميركي باراك اوباما حين أطلق مصطلح "القطط السمينة" (Fat Cat) على الذين يحصلون على مكافآت مصرفية كبيرة، معربا عن غضبه من اعتزام المصارف التي أنقذتها الحكومة بأموال دافعي الضرائب منح مكافآت ضخمة لموظفيها بينما يعاني المواطنون من الديون. الإشكالية التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي ووصل تأثيرة إلى دول العالم المختلفة والى أسواق الدوحة والبنوك القطرية، تتمثل في أن الرواتب والمكآفات المجزية التي تمنحها المؤسسات المالية كانت من الأسباب الرئيسية في التشجيع على الإقدام على مغامرات استثمارية مبالغ فيها، وهي أدت إضافة إلى أزمة الرهن العقاري إلى حدوث الأزمة المالية الدولية، ودفعت القطاع المالي الأميركي إلى حافة الانهيار قبل عام. أما اللعبة الجديدة التي يلعبها القطط السمان بعد الاستقرار شبه المعقول في الأزمة وليس احتواءها، هو في أنها أعادت بعض الأموال التي أقرضتها لها الحكومة لمنعها من الانهيار خلال الأزمة المالية، من أجل التهرب من الضوابط الحكومية التي ترعى المكافآت كما حدث في بعض البنوك وهو الأمر الذي وصفه أوباما بقوله "بعض الناس لم يستوعبوا الأمر بعد ومازالوا يتساءلون لماذا الناس غاضبة"؟؟!!
في الأسبوع نفسه أوصى تقرير مصرفي بريطاني بأن تفصح كبرى البنوك في البلاد عن المبالغ التي تدفعها لكبار موظفيها، إذا تجاوزت 1.65 مليون دولار. والتقرير عبارة عن توصيات أعدها ديفيد ووكر رئيس مجلس الإدارة السابق للوحدة الدولية لبنك مورغان ستانلي وقدمها للحكومة البريطانية، بعد موجة غضب شعبي من ارتفاع علاوات ورواتب مسؤولي البنوك الكبار. من جانبها ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون تعهد باتخاذ "إجراءات صارمة" بشأن المكافآت المبالغ فيها في القطاع المالي في إطار مسعى دولي. وفي مقابلة نشرتها الصحيفة على صدر صفحتها الأولى قال براون إن الرواتب والمكافآت يجب ان تدفع على اساس النتائج على المدى الطويل وليس المكاسب عن طريق المضاربات وانه يجب على البنوك أن تسترد المكافآت إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية؟!
نشرت أرقـام بزنس إنفو، وهو موقع الكتروني متخصص بتقديم المعلومات المالية والأخبار الاقتصـادية المتعلقـة بأسـواق الأسـهم في منطقة الخليج والشـركات المدرجة فيها، دراسة حول المكافآت والتعويضات التي حصل عليها كبار التنفيذيين في الشركات السعودية المساهمة، وكشفت أن مسئولين في شركات "ساب" و"الكابلات" و "صافولا" و"الأبحاث والتسويق" قد حصلوا على أعلى المكافآت. وأظهرت الدراسة أن كبار التنفيذيين في 7 بنوك سعودية و3 شركات أخرى (موبايلي، إعمار، البحر الأحمر) قد جاءوا في رأس القائمة. وكانت مجموعة سامبا الأكثر سخاء، حيث بلغت مكافآت ستة من التنفيذيين الكبار 47.6 مليون ريال من ضمنهم الرئيس التنفيذي للمجموعة؟!
في قطر أعلن وزير المالية منذ فترة أن وزارته ستنفق 900 مليون دولار على شراء حصة 5% في بعض البنوك المحلية قبل نهاية العام وهو القرار المستند إلى قرار اتخذته هيئة الاستثمار القطرية العام الماضي لشراء ما بين 10 - 20 % من أسهم البنوك المدرجة بالإضافة إلى شراء المحافظ المتعثرة وبعض المديونيات غير القادرة على الدفع، وبتاريخ 23/12/2009 ذكر تقرير لمجموعة "كريدت سويس" (Credit Suisse) المصرفية، أوردته نشرة "داو جونز"، أن المصارف القطرية قد تعاني من انكشافها على مجموعة دبي العالمية المثقلة بالديون والتي تسعى جاهدة لإعادة جدولة ديون مترتبة عليها بقيمة تلامس 22 مليار دولار، وأشار التقرير إلى أنه رغم إعلان عدد من المصارف القطرية، منها البنك التجاري القطري وبنك قطر الدولي الإسلامي وبنك الدوحة، عن عدم انكشافها لمجموعة دبي العالمية أو الشركات التابعة لها (ولا نعرف اين تقف هذه البنوك في نشاطاتها الأخرى في الدول الخليجية أو العربية أو الأجنبية)، إلا أن مصرف قطر الإسلامي، وعلى عكس البنوك المذكورة، كشف في بداية شهر ديسمبر الجاري عن تعرضه لمجموعة دبي العالمية بمبلغ يلامس ( 54 مليون ريال قطري) في شكل مساهمة في صكوك إسلامية متداولة مغطاة بأصول عينية مستحقة السداد في عام 2017.
وحسنا فعل مجلس الشورى القطري في طرح موضوع مكافآت وبدلات أعضاء مجالس إدارات البنوك والشركات المساهمة العامة، واعتقد أنها خطوة صحيحة يجب أن تتبعها خطوات في تقييم ومراجعة وضع القوانين و الضوابط و معايير الحوكمة للنظام في المؤسسات والشركات والبنوك التي تملك فيها الدولة حصصا واسهما ومحافظ، وصياغة معايير واليات واضحة ومحددة لمواجهة القطط السمان، فالرواتب والمكافآت يجب أن تقدم على أساس النتائج طويلة المدى وليس من خلال المضاربات في البورصة والعقارات وأن يتم استردادها إذا تدهور الأداء في الأعوام التالية.
بات من الواضح أن السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية العالمية يعود إلى غياب الضوابط والمعايير والقوانين التي تحكم المسئولين ومديري وأعضاء وأصحاب النشاط الاقتصادي المصرفي والأذرع التابعة له من مؤسسات مالية وشركات مساهمة وأسواق نقدية ومالية، كما أشار لذلك الدكتور غسان قلعاوي، فهم لم يتعلموا الدرس وعادوا بعد تهدئة الأزمة والحصول على المساعدات و التمويل والسيولة من قبل الحكومات من الميزانيات الاحتياطية وصندوق الأجيال و دافعي الضرائب إلى معالجة الأزمة بنفس الأساليب التي أدت إليها من إصرار على تغليب هدف الربحية والأجور العالية والاستثمارات التي تغلب عليها صفة المضاربة وارتفاع مستويات الخطر والتوسع في الإقراض وطلب المزيد من الدعم والسيولة من قبل الحكومات؟؟!! وهي أساليب بعيدة عن عوامل الأمان والسلامة التي تكفل الحفاظ على الأموال باعتباره الهدف الأول للنشاط المصرفي.
النشاط الاقتصادي وخصوصا البنوك وبعض المؤسسات المساهمة بشكل عام وعندنا في الخليج وفي قطر بوجه خاص تجاور الحدود والقوانين التي صيغت لضبطه باعتباره نشاطاً أميناً على حفظ أموال الجمهور قبل العمل على تنمية أرباح ملاكه وأجور مديريه والمسئولين الكبار فيه، وكان تجاوزه مقترنا بتساهل أو بتغاضي السلطات المالية والنقدية المسؤولة، بل بتمهيد وتشجيع منها في معظم الأحيان في ظل عهد طفرة الاستثمار المنفلت.
ما الحل إذا، وكيف تتم مواجهة الإشكاليات المطروحة؟.. أعود مرة أخرى لرؤية الدكتور غسان قلعاوي الذي طالب بالعودة إلى الالتزام بالضوابط الدولية وعدم تجاوزها أو القفز عليها، أهمها كفاية رأس المال وتكوين الاحتياطيات الخاصة وأداء الاحتياطيات الإلزامية وحظر الأنشطة والأعمال غير المصرفية كممارسة التجارة أو الصناعة أو امتلاك البضائع والمتاجرة بها أو شراء العقارات أو تملك الأسهم أو المتاجرة بها، أو المساهمة في تمويل إنشاء عقارات سكنية أو تجارية إلا في حالات خاصة وضمن حدود معينة ولمدد محددة، ليعود النشاط كما كان في سابق عهده كأمين على ودائع وأموال الناس.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
الثلاثاء، 5 يناير 2010
انتهاء الرقابة في عصر الحريات
المنع والمصادرة والرقابة في عصر الحريات انتهت إلى غير رجعة
يشكل عدد الكتب العربية حوالي %1 فقط من الإنتاج العالمي
2010-01-06
زرت عدة معارض للكتاب خلال الفترة الماضية بعضها في دول الخليج والبعض الاخر في الدول العربية، وآخرها معرض الدوحة العشرون الدولي للكتاب، ولم أفاجأ حقيقة بمقص الرقيب الذي وجدته حاضرا ومستعدا ومتأهبا للانقضاض على الجديد والقديم أيضا من المؤلفات والكتب الفكرية المختلفة من طرف اليمين إلى أقصى اليسار! بل ما أثأر انتباهي أن دور النشر العربية نتيجة هذا الوضع القائم والمستمر، وربما نتيجة مرورها بالتجارب المختلفة مع مختلف الدول في العالم العربي، وضعت أصابعها في عينيها، وقامت بدورها بممارسة الرقابة الذاتية بوعي أو غير وعي أحيانا أو كثيرا، في مصادرة وعزل الكتب التي تعتقد انه سيتم منعها أو توقيفها في مطارات وأجهزة الرقابة الحكومية والخاصة في الدول العربية وخصوصا في دول الخليج!!
الرقابة عششت وتربت وكبرت وفرخت في العقل العربي وبات الجميع يمارس الرقابة بأشكال مختلفة كمحرقة جماعية (Holocaust)، والاختلاف يمكن في الدرجة وليس في النوع، من الرقيب الحكومي العتيد إلى دور النشر إلى المكتبات إلى القارئ والمتلقي، هذا الوضع المزري الذي وصلنا إليه، جعل التقارير والتقييمات الدولية تتناولنا بالتشريح والتقطيع وترينا مكاننا الحقيقي من الإعراب في العالم، فهي تشير إلى أن العرب أقل الأمم في تأليف وإصدار الكتب، فهم لا ينتجون إلا أقل من نصف بالمائة من كتب العالم، وهم أقل أمم العالم في القراءة بشكل عام وفي قراءة الكتب بشكل خاص، فهم لا يقرأون كتاباً واحداً في كل عام، في حين أن معدلات القراءة في الغرب قد تصل إلى قراءة أكثر من كتاب بمعدل الشهر، كما ان العالم العربي يترجم من الكتب أقل مما يترجمه بلد واحد مثل اليونان، ويشكل عدد الكتب العربية 1% فقط تقريبا من الإنتاج العالمي، وما ترجم في العالم العربي منذ عصر المأمون حتى الآن أقل مما تترجمه أسبانيا وحدها في عام واحد، كما أن إحصائية (اليونيسكو) اشارت الى أن العالم العربي خلال سنة 1991 اصدر ما يقارب 6500 كتاب وفي مقابل ذلك نجد حوالي 102000 كتاب في أمريكا الشمالية وحدها ونجد 42000 كتاب من أمريكا اللاتينية والكاريبي وحدها، مما يعطي انطباعا عن حقيقة المشهد المعرفي والثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي من تراجع وجهل وضياع إذا ما قارناه مع دول في العالم الثالث كانت تقبع في المؤخرة وتتقدم اليوم على جميع الدول العربية في العلم والتعليم والثقافة والفكر والأدب.
ذهبت لتلك المعارض ابحث عن ضالتي من المؤلفات العربية الجديدة في السوق التي تتناول الفكر والفلسفة والثقافة والسياسة، لنتعرف من خلالها على ما فاتنا في بلاد الغربة من أفكار وأطروحات ومساجلات ومجادلات في الساحة العربية، وللأسف رجعت خاوي اليدين ومصابا بخيبة أمل وحسرة شديدة، فلم تكن عندي مشكلة في الحصول على الكتب الأجنبية الغربية والشرقية وبجميع اللغات، ويكفي أنه بضغطة زر على جهاز الكمبيوتر، تنتقل عن طريق الشبكة العنكبوتية إلى كبريات دور النشر والكتب في العالم على رأسها أمازون (Amazon) وبارنز اند نوبل (Barnes & Noble) وبوردرز (Borders)، أو تقوم بالاشتراك بالمواقع الأكاديمية أو العلمية المختلفة لتطلع على الإنتاج العالمي جديده وقديمه في مختلف التخصصات على شكل الكتب الالكترونية (E — BOOK)، لكن في عالمنا العربي تجد الكثير من القيود والأبواب المغلقة والأسوار الشائكة التي تضع أمامك العراقيل التي تمنعك من الوصول إلى مبتغاك وان كان مجرد كتاب مطبوع مغمور لا يطلع عليه إلا النخب؟!؟! وللأسف إن الرقابة بأشكالها المختلفة التي تمارس في الأراضي العربية لم تقمع الكتب والفكر الذي تحمله بل حدت من بروز المبدعين والمفكرين والمؤلفين وحجمت من انتشار أفكارهم ومعارفهم وإبداعاتهم، كما ان العديد منهم محارب في فكره وأطروحاته ويتم منعها وتكفيرها وتسفيهها والتقليل من شأنها؟! فلا كرامة لنبي في وطنه.
لكن رغم ذلك السواد الذي يبدو كثيفا وطويلا إلا أن هناك دائما بصيصا من النور والأمل، فالحاجة أم الاختراع، وقديما قالوا إذا أردت أن تشهر كتابا فامنعه أو قم بمصادرته، والحراك والتغيير في الساحة الثقافية العربية اليوم بدا بحفر الثقوب الأولى في الجدار السميك عن طريق المنتديات والمواقع الاجتماعية التفاعلية على الشبكة العنكبوتية، وما تقوم به هذه المنتديات والمدونات (البلوغز) من المساهمة في نشر المؤلفات والكتب في جميع التخصصات عن طريق مواقعها على الانترنت وخصوصا تلك المرفوضة دينياً وسياسياً واجتماعياً وثقافيا، وهو العمل الذي يشبه ما كان يقوم به المثقفون والمفكرون في أوروبا في عصر التنوير وبالتحديد في إيطاليا، وهولندا، وانجلترا، وفرنسا، عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر، من طباعة الكتب أو اعادة نسخها ونشرها، وهو المشروع الفكري والنضالي الذي خلص البشرية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة والاستبداد السياسي وانتشل العقل من الأفكار الخرافية والظلامية التي سادت في شرائح واسعة من الشعب بل وحتى من قبل الكثير من المثقفين لقرون! والكتب التي صنعت التغيير ويدين لها عالم اليوم بالكثير كانت تتناول افكار هوبز، سبينوزا، لايبنتز، لوك، بايل، جاليليو، جان جاك روسو، فولتير، ديدرو، كوندورسيه، ليسنغ، كانط، هيغل، هولدرلين.
ورغم أن هذه الأعمال والنشاطات التي انتشرت كالنار في الهشيم، ولم تعد هناك قدرة للسيطرة عليها أو محاصرتها أو الحد منها أو وقفها أو تحجيمها، منافية للجوانب الأخلاقية من قبيل الحفاظ على حقوق المؤلف أو الكاتب والناشر أو دور النشر، إلا أن الغريق يتعلق بقشة، وهل نستطيع أن نطالب بقطع يد السارق الذي يسعى للحصول على خبز يومه عندما تنتشر المجاعة ويعم الفقر في مجتمع، اسألوا عمر بن الخطاب؟! فما بالك اذا انتشر وساد وعم في دول ومجتمعات وأمم وكان هذا الفقر متمثلا في البحث عن المعرفة والعلوم والمعلومات؟!
وكأني اسمع صرخة فولتير الشهيرة اسحقوا العار مدوية من القرن الثامن عشر تخاطبنا قائلة "كفى حرقا للكتب، والإطاحة برؤوس الفلاسفة وإعدام الأبرياء بحجة أنهم يدينون بديانات مختلفة، هذا عار يجب أن يمحى، الإنسان يحب أن يتحرر من خرافات العصور الوسطى، ومن سلطة الحكومة الدينية، الإنسان يجب أن يحكم بالحجة والعقل". أو أنها من المقولات التي كان يرددها كوندورسيه قبل أن يلقى حتفه، وهو الذي اعتبر اخر مفكري فلاسفة التنوير الكبار الذين حاربوا الاستبداد وطغيان الكنيسة، "سوف يأتى يوم تشرق فيه الشمس على الإنسان الحر. الذى يعتبر العقل فقط هو سيده. عندما يحتل الطغاة والعبيد ورجال الدين وأدواتهم الجهنمية، مكانهم الطبيعى فى صفحات التاريخ، وعلى خشبة المسرح"، إن المنع والمصادرة والرقابة في عصر الحريات انتهت إلى غير رجعة والعالم لا يعود إلى الوراء فهل وصلت الرسالة أيها الرقيب العربي؟!
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
يشكل عدد الكتب العربية حوالي %1 فقط من الإنتاج العالمي
2010-01-06
زرت عدة معارض للكتاب خلال الفترة الماضية بعضها في دول الخليج والبعض الاخر في الدول العربية، وآخرها معرض الدوحة العشرون الدولي للكتاب، ولم أفاجأ حقيقة بمقص الرقيب الذي وجدته حاضرا ومستعدا ومتأهبا للانقضاض على الجديد والقديم أيضا من المؤلفات والكتب الفكرية المختلفة من طرف اليمين إلى أقصى اليسار! بل ما أثأر انتباهي أن دور النشر العربية نتيجة هذا الوضع القائم والمستمر، وربما نتيجة مرورها بالتجارب المختلفة مع مختلف الدول في العالم العربي، وضعت أصابعها في عينيها، وقامت بدورها بممارسة الرقابة الذاتية بوعي أو غير وعي أحيانا أو كثيرا، في مصادرة وعزل الكتب التي تعتقد انه سيتم منعها أو توقيفها في مطارات وأجهزة الرقابة الحكومية والخاصة في الدول العربية وخصوصا في دول الخليج!!
الرقابة عششت وتربت وكبرت وفرخت في العقل العربي وبات الجميع يمارس الرقابة بأشكال مختلفة كمحرقة جماعية (Holocaust)، والاختلاف يمكن في الدرجة وليس في النوع، من الرقيب الحكومي العتيد إلى دور النشر إلى المكتبات إلى القارئ والمتلقي، هذا الوضع المزري الذي وصلنا إليه، جعل التقارير والتقييمات الدولية تتناولنا بالتشريح والتقطيع وترينا مكاننا الحقيقي من الإعراب في العالم، فهي تشير إلى أن العرب أقل الأمم في تأليف وإصدار الكتب، فهم لا ينتجون إلا أقل من نصف بالمائة من كتب العالم، وهم أقل أمم العالم في القراءة بشكل عام وفي قراءة الكتب بشكل خاص، فهم لا يقرأون كتاباً واحداً في كل عام، في حين أن معدلات القراءة في الغرب قد تصل إلى قراءة أكثر من كتاب بمعدل الشهر، كما ان العالم العربي يترجم من الكتب أقل مما يترجمه بلد واحد مثل اليونان، ويشكل عدد الكتب العربية 1% فقط تقريبا من الإنتاج العالمي، وما ترجم في العالم العربي منذ عصر المأمون حتى الآن أقل مما تترجمه أسبانيا وحدها في عام واحد، كما أن إحصائية (اليونيسكو) اشارت الى أن العالم العربي خلال سنة 1991 اصدر ما يقارب 6500 كتاب وفي مقابل ذلك نجد حوالي 102000 كتاب في أمريكا الشمالية وحدها ونجد 42000 كتاب من أمريكا اللاتينية والكاريبي وحدها، مما يعطي انطباعا عن حقيقة المشهد المعرفي والثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي من تراجع وجهل وضياع إذا ما قارناه مع دول في العالم الثالث كانت تقبع في المؤخرة وتتقدم اليوم على جميع الدول العربية في العلم والتعليم والثقافة والفكر والأدب.
ذهبت لتلك المعارض ابحث عن ضالتي من المؤلفات العربية الجديدة في السوق التي تتناول الفكر والفلسفة والثقافة والسياسة، لنتعرف من خلالها على ما فاتنا في بلاد الغربة من أفكار وأطروحات ومساجلات ومجادلات في الساحة العربية، وللأسف رجعت خاوي اليدين ومصابا بخيبة أمل وحسرة شديدة، فلم تكن عندي مشكلة في الحصول على الكتب الأجنبية الغربية والشرقية وبجميع اللغات، ويكفي أنه بضغطة زر على جهاز الكمبيوتر، تنتقل عن طريق الشبكة العنكبوتية إلى كبريات دور النشر والكتب في العالم على رأسها أمازون (Amazon) وبارنز اند نوبل (Barnes & Noble) وبوردرز (Borders)، أو تقوم بالاشتراك بالمواقع الأكاديمية أو العلمية المختلفة لتطلع على الإنتاج العالمي جديده وقديمه في مختلف التخصصات على شكل الكتب الالكترونية (E — BOOK)، لكن في عالمنا العربي تجد الكثير من القيود والأبواب المغلقة والأسوار الشائكة التي تضع أمامك العراقيل التي تمنعك من الوصول إلى مبتغاك وان كان مجرد كتاب مطبوع مغمور لا يطلع عليه إلا النخب؟!؟! وللأسف إن الرقابة بأشكالها المختلفة التي تمارس في الأراضي العربية لم تقمع الكتب والفكر الذي تحمله بل حدت من بروز المبدعين والمفكرين والمؤلفين وحجمت من انتشار أفكارهم ومعارفهم وإبداعاتهم، كما ان العديد منهم محارب في فكره وأطروحاته ويتم منعها وتكفيرها وتسفيهها والتقليل من شأنها؟! فلا كرامة لنبي في وطنه.
لكن رغم ذلك السواد الذي يبدو كثيفا وطويلا إلا أن هناك دائما بصيصا من النور والأمل، فالحاجة أم الاختراع، وقديما قالوا إذا أردت أن تشهر كتابا فامنعه أو قم بمصادرته، والحراك والتغيير في الساحة الثقافية العربية اليوم بدا بحفر الثقوب الأولى في الجدار السميك عن طريق المنتديات والمواقع الاجتماعية التفاعلية على الشبكة العنكبوتية، وما تقوم به هذه المنتديات والمدونات (البلوغز) من المساهمة في نشر المؤلفات والكتب في جميع التخصصات عن طريق مواقعها على الانترنت وخصوصا تلك المرفوضة دينياً وسياسياً واجتماعياً وثقافيا، وهو العمل الذي يشبه ما كان يقوم به المثقفون والمفكرون في أوروبا في عصر التنوير وبالتحديد في إيطاليا، وهولندا، وانجلترا، وفرنسا، عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر، من طباعة الكتب أو اعادة نسخها ونشرها، وهو المشروع الفكري والنضالي الذي خلص البشرية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة والاستبداد السياسي وانتشل العقل من الأفكار الخرافية والظلامية التي سادت في شرائح واسعة من الشعب بل وحتى من قبل الكثير من المثقفين لقرون! والكتب التي صنعت التغيير ويدين لها عالم اليوم بالكثير كانت تتناول افكار هوبز، سبينوزا، لايبنتز، لوك، بايل، جاليليو، جان جاك روسو، فولتير، ديدرو، كوندورسيه، ليسنغ، كانط، هيغل، هولدرلين.
ورغم أن هذه الأعمال والنشاطات التي انتشرت كالنار في الهشيم، ولم تعد هناك قدرة للسيطرة عليها أو محاصرتها أو الحد منها أو وقفها أو تحجيمها، منافية للجوانب الأخلاقية من قبيل الحفاظ على حقوق المؤلف أو الكاتب والناشر أو دور النشر، إلا أن الغريق يتعلق بقشة، وهل نستطيع أن نطالب بقطع يد السارق الذي يسعى للحصول على خبز يومه عندما تنتشر المجاعة ويعم الفقر في مجتمع، اسألوا عمر بن الخطاب؟! فما بالك اذا انتشر وساد وعم في دول ومجتمعات وأمم وكان هذا الفقر متمثلا في البحث عن المعرفة والعلوم والمعلومات؟!
وكأني اسمع صرخة فولتير الشهيرة اسحقوا العار مدوية من القرن الثامن عشر تخاطبنا قائلة "كفى حرقا للكتب، والإطاحة برؤوس الفلاسفة وإعدام الأبرياء بحجة أنهم يدينون بديانات مختلفة، هذا عار يجب أن يمحى، الإنسان يحب أن يتحرر من خرافات العصور الوسطى، ومن سلطة الحكومة الدينية، الإنسان يجب أن يحكم بالحجة والعقل". أو أنها من المقولات التي كان يرددها كوندورسيه قبل أن يلقى حتفه، وهو الذي اعتبر اخر مفكري فلاسفة التنوير الكبار الذين حاربوا الاستبداد وطغيان الكنيسة، "سوف يأتى يوم تشرق فيه الشمس على الإنسان الحر. الذى يعتبر العقل فقط هو سيده. عندما يحتل الطغاة والعبيد ورجال الدين وأدواتهم الجهنمية، مكانهم الطبيعى فى صفحات التاريخ، وعلى خشبة المسرح"، إن المنع والمصادرة والرقابة في عصر الحريات انتهت إلى غير رجعة والعالم لا يعود إلى الوراء فهل وصلت الرسالة أيها الرقيب العربي؟!
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
الاثنين، 4 يناير 2010
فرنسا الغريبة...الفرانكفونية في معرض كتاب الدوحة
2010-01-04
الفرانكفونية اليوم تبحث عن هوية ووطن وغير قادرة على أن تعرفنا بنفسها
الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان
كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا
الكتب المعروضة في المعرض موجودة على شبكة الانترنت بدون رقابة
بدت ملامحها غريبة، متوجسة، ومنعزلة، رغم العرض المبهر والديكور الفاخر والموقع المميز عند البوابة الرئيسية لدخول معرض الدوحة الدولي الـ"20" للكتاب، وهي ضيف الشرف، إلا أن الحواجز والموانع في التواصل ظلت تطاردها في منطقة لا تنتمي للفرانكفونية (وهوالمصطلح الذي حدده أونسيم روكولو، في 1880م وقصد به مجموع الأشخاص والبلدان التي تستخدم اللغة الفرنسية وثقافتها في موضوعات عديدة). وقد اقتصر زوار جناحها على بعض النخب التي جاءت لتقديم المجاملة والإطراء وعمل الواجب تجاه الضيف في قطر، وليس للبحث عن أرث ضائع كان أحد أركان الحضارة الحديثة بأفكاره ورواده ومفكريه. ذهبت للجناح الفرنسي أبحث في أركانه عن التنوير وأين وصل وعن مكانه في الاعراب في ثقافة تتعرض لصراع الهوية الوطنية بشكل دوري، وعمن يمثلها ويتحدث باسمها وعنها، وعلاقتها مع الإسلام والمسلمين، ومع الآخر بوجه عام في عصر العولمة وخصوصا بعد انتشار مطاعم ستارباكس وماكدونالدز الذي قرر أن يفتح فرعا في متحف اللوفر منذ مدة قصيرة؟!. درت في الردهات أبحث عن الحداثة وما بعدها وعن الجديد على الساحة لمقارنة ذلك بوضعنا، بحاضرنا ومستقبلنا. وكانت خيبة الأمل شديدة فلم أجد ضالتي، فالجناح الفرانكفوني يصلح للمشاركة في معارض السياحة والسفر والتجوال وربما الطبخ، وليس المشاركة في معرض متخصص يتناول الثقافة والفكر والكتب؟! بحثت عن الكتب العربية فلم أجد إلا كتابين، وسألت عن الانجليزية التي تتناول الثقافة الفرانكفونية بحكم الدراسة في الدول (الانجلوسكسونية) فلم أجد إلا 4 كتب. أما الفرنسية التي حاولت اختيار مجموعة من كتبها على سبيل الذكرى، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
ابتعدت الفرانكفونية كثيرا في الآونة الأخيرة، وحاصرت نفسها بأسوار وجدران عالية، فهي التي لعبت جميع الأدوار ونقيضيها (Good Guys & Bad Guys) و(Angels & Demons)؟! من استعمار الدول في القارات المختلفة ومنها العربية والإسلامية في الجزائر وتونس وجيبوتي، ومارست الحماية للمغرب، والانتداب على سوريا، وقبلها حملت المطابع في الحملة الفرنسية وتوابعها على مصر (1798 — 1801 م)، وزودتها بالحروف العربية والتركية والفرنسية واليونانية، إلى جانب ما قامت به من أدوار في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حاولت بعده تكفير خطئها في نشر ثقافة الحوار والديمقراطية وتعزيز الثقافة الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم، من أجل الإنسان والمحبة والسلام، وعبر الثقافة والفنون والآداب وفروعها في الفلسفة والفكر والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمسرح والرواية والشعر، لكنها اليوم تبدو وهي تبحث عن هوية ووطن وهي غير قادرة على أن تعرفنا بنفسها ولا تدعنا نعرفها عن أنفسنا؟!. لقد تابعت التحركات الفرانكفونية خاصة في دول الخليج العربية وكانت السياسة وهمومها هي الطاغية على المشهد وفي أغلب الصور، في الحديث عن انشاء القواعد العسكرية والوجود بحرا وجوا وبرا، وإرسال حاملات الطائرات المقاتلة، وسفن التجسس، وتسويق آخر المبتكرات الفرنسية في مجال التسلح، وترويج عدد من طائرات رافال (Rafale) لتحلّ مكان طائرات ميراج (Mirage)،؟!. أما المبادرات الأخرى الشحيحة التي تستهدف مجال التعليم والثقافة والتي اقتصرت على نخب معدودة على أصابع اليد، فقد جاء أغلبها مكملا للدور الأول؟! ولا ننسى أيضا مدى ما بلغته تجارة العطور والملابس الداخلية وعروض الأزياء النسائية الفرنسية عند الخليجيين من أهمية؟!
قبل أن أغادر المعرض، وقفت على مقربة من المدخل الرئيسي أنظر إلى الجناح الفرانكفوني من بعيد، تراءت لي آخر المعارك — وليست الأخيرة — التي دارت على الساحة الإنسانية حين طرحت الإشكالية المشككة في الأطروحات التي قدمها رموز الثقافة الفرانكفونية ورواد عصر الأنوار، وقد تحدث عنها هاشم صالح في تعليقه على كتاب تاريخ الفلسفة الفرنسية، والجدل دائما ما يبدأ بسؤال تعقبه مسائل، والسؤال كان: هل توجد حقاً فلسفة فرنسية؟ ودارت الأطروحات حول أن فرنسا لا تعتبر بلداً فلسفياً بكل ما تحمله الكلمة من معان وجمل؟! الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان والانجليز على سبيل المثال؟ الفرانكفونيون روحهم متواضعة وخفيفة وسطحية، والفكر يتطلب عقولاً ثقيلة أو أدمغة ضخمة كعقول مصنوعة من المدافع الثقيلة مثل (الماكينة المانية)، ساعتها نهضت القوة الدفاعية الفرانكفونية لتفرض نفسها وتدخل المعركة بكل ثقلها وتصدح بمقولة ديكارت الرائعة (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ولا تتردد أوتخجل في أن تقارن نفسها مع الفلسفة اليونانية، والفلسفة الألمانية، فالفلاسفة الفرانكفونيون بالفعل فلاسفة وليسوا كتاباً أو أدباء فقط؟! من أبيلاروسان برنار في القرون الوسطى الى ديلوز ودريدا في العصر الراهن، مروراً بمونتيني، وديكارت، وروسو، وفولتير، وباسكال، ومالبرانش، وبيرغسون، وسارتر، فكانط اعترف بمديونيته لجان جاك روسو، وهيغل أشار إلى ديكارت بأنه بطل الفكر والمؤسس الحقيقي للفلسفة الحدثية، بل ويشير ميشيل سير، أحد كبار الفلاسفة الفرانكفونيين حاليا كما يعرفه هاشم صالح الذي نستعين بالكثير من مقولته هنا، إلى أن معظم فلاسفة الفرانكفونية وخاصة الرواد الذين قدموا الكثير للفكر الإنساني وضحوا ودفعوا الثمن غاليا كالعظماء الآخرين وربما أكثر منهم، كانوا يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم ومنبوذون من قبل معاصريهم. وقد أكدوا أنفسهم عن طريق التمرد على العقلية السائدة والامتثالية، عن طريق لغم القناعات الراسخة وتفكيكها، ولكن يبقى العامل المشترك لمعظم الفلاسفة الفرنسيين على مدار العصور أنهم كلهم تعرضوا للاضطهاد والعيش في المنافي لأجل أن يوصلوا أفكارهم إلى العالم أجمع؟!
إن معظم المفكرين الفرانكفونيين أدينوا بشكل أوبآخر من قبل سلطات عصرهم، سواء أكانت سلطات لاهوتية، أم سياسية، أم اجتماعية، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا بعد أن ماتوا ودفعوا الثمن، فرينيه ديكارت، اضطر إلى الهرب من بلاده والعيش في هولندا لمدة عشرين سنة، ثم في السويد لأنه كان يريد أن يتخلص من الجوالخانق السائد آنذاك في المملكة الفرنسية بسبب هيمنة التقليد والتحجر العقلي والأصولية الكاثوليكية. وجان جاك روسو عاش محتقراً، منبوذاً، مطارداً من مكان إلى آخر وكأنه مجرم!! وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته، ولم يتم تذكره إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية ليكرموا ذكراه، وينقلوا رفاته إلى مقبرة العظماء، ويتخذوا من كتبه دستوراً ومنهاجاً للجمهورية الفرنسية! وفولتير سجن في سجن الباستيل قبل أن يهرب إلى انجلترا، وحين وافته المنية رفض الكهنة الصلاة عليه أودفنه في مقابر المسيحيين لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً؟! وديدرو اعتقل لفترة من الزمن في سجن «فانسين»، وأما كوندرسيه فقد حكم عليه بالموت وانتحر في السجن، وبالمختصر المفيد فإن كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً وتضع أسماءهم على شوارعها وساحاتها العامة كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا، ولا يشذ عن ذلك فيكتور هيغو الذي نفاه نابليون الثالث لمدة عشرين سنة ليعيش كالبؤساء، قبل أن يعود كالفاتح المظفر إلى باريس؟!
حملت الكيس الذي أضع بداخله كتبا قليلة اقتنيتها من المعرض حتى لا اخرج خالي اليدين، فلم تكن هناك كتب تستدعى من المرء أن يقبل عليها بلهفة وشوق ونهم، وللعلم فقد أصبح معظمها موجود على الشبكة العالمية (E — books) وتمكن قراءتها من غير رقابة ولا مقص رقيب بعد ساعات قليلة من صدورها والرجوع إليها كمصادر في أي وقت ومكان وزمان؟! خرجت متسائلا عن الفرانكفونية التي رأيت، هل هي جديدة قديمة أم قديمة جديدة أم شيء آخر لا يريد أن يعرفنا ولا نريد أن نعرفه؟!
خــــالـــد الجــابــر
الفرانكفونية اليوم تبحث عن هوية ووطن وغير قادرة على أن تعرفنا بنفسها
الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان
كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا
الكتب المعروضة في المعرض موجودة على شبكة الانترنت بدون رقابة
بدت ملامحها غريبة، متوجسة، ومنعزلة، رغم العرض المبهر والديكور الفاخر والموقع المميز عند البوابة الرئيسية لدخول معرض الدوحة الدولي الـ"20" للكتاب، وهي ضيف الشرف، إلا أن الحواجز والموانع في التواصل ظلت تطاردها في منطقة لا تنتمي للفرانكفونية (وهوالمصطلح الذي حدده أونسيم روكولو، في 1880م وقصد به مجموع الأشخاص والبلدان التي تستخدم اللغة الفرنسية وثقافتها في موضوعات عديدة). وقد اقتصر زوار جناحها على بعض النخب التي جاءت لتقديم المجاملة والإطراء وعمل الواجب تجاه الضيف في قطر، وليس للبحث عن أرث ضائع كان أحد أركان الحضارة الحديثة بأفكاره ورواده ومفكريه. ذهبت للجناح الفرنسي أبحث في أركانه عن التنوير وأين وصل وعن مكانه في الاعراب في ثقافة تتعرض لصراع الهوية الوطنية بشكل دوري، وعمن يمثلها ويتحدث باسمها وعنها، وعلاقتها مع الإسلام والمسلمين، ومع الآخر بوجه عام في عصر العولمة وخصوصا بعد انتشار مطاعم ستارباكس وماكدونالدز الذي قرر أن يفتح فرعا في متحف اللوفر منذ مدة قصيرة؟!. درت في الردهات أبحث عن الحداثة وما بعدها وعن الجديد على الساحة لمقارنة ذلك بوضعنا، بحاضرنا ومستقبلنا. وكانت خيبة الأمل شديدة فلم أجد ضالتي، فالجناح الفرانكفوني يصلح للمشاركة في معارض السياحة والسفر والتجوال وربما الطبخ، وليس المشاركة في معرض متخصص يتناول الثقافة والفكر والكتب؟! بحثت عن الكتب العربية فلم أجد إلا كتابين، وسألت عن الانجليزية التي تتناول الثقافة الفرانكفونية بحكم الدراسة في الدول (الانجلوسكسونية) فلم أجد إلا 4 كتب. أما الفرنسية التي حاولت اختيار مجموعة من كتبها على سبيل الذكرى، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
ابتعدت الفرانكفونية كثيرا في الآونة الأخيرة، وحاصرت نفسها بأسوار وجدران عالية، فهي التي لعبت جميع الأدوار ونقيضيها (Good Guys & Bad Guys) و(Angels & Demons)؟! من استعمار الدول في القارات المختلفة ومنها العربية والإسلامية في الجزائر وتونس وجيبوتي، ومارست الحماية للمغرب، والانتداب على سوريا، وقبلها حملت المطابع في الحملة الفرنسية وتوابعها على مصر (1798 — 1801 م)، وزودتها بالحروف العربية والتركية والفرنسية واليونانية، إلى جانب ما قامت به من أدوار في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حاولت بعده تكفير خطئها في نشر ثقافة الحوار والديمقراطية وتعزيز الثقافة الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم، من أجل الإنسان والمحبة والسلام، وعبر الثقافة والفنون والآداب وفروعها في الفلسفة والفكر والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمسرح والرواية والشعر، لكنها اليوم تبدو وهي تبحث عن هوية ووطن وهي غير قادرة على أن تعرفنا بنفسها ولا تدعنا نعرفها عن أنفسنا؟!. لقد تابعت التحركات الفرانكفونية خاصة في دول الخليج العربية وكانت السياسة وهمومها هي الطاغية على المشهد وفي أغلب الصور، في الحديث عن انشاء القواعد العسكرية والوجود بحرا وجوا وبرا، وإرسال حاملات الطائرات المقاتلة، وسفن التجسس، وتسويق آخر المبتكرات الفرنسية في مجال التسلح، وترويج عدد من طائرات رافال (Rafale) لتحلّ مكان طائرات ميراج (Mirage)،؟!. أما المبادرات الأخرى الشحيحة التي تستهدف مجال التعليم والثقافة والتي اقتصرت على نخب معدودة على أصابع اليد، فقد جاء أغلبها مكملا للدور الأول؟! ولا ننسى أيضا مدى ما بلغته تجارة العطور والملابس الداخلية وعروض الأزياء النسائية الفرنسية عند الخليجيين من أهمية؟!
قبل أن أغادر المعرض، وقفت على مقربة من المدخل الرئيسي أنظر إلى الجناح الفرانكفوني من بعيد، تراءت لي آخر المعارك — وليست الأخيرة — التي دارت على الساحة الإنسانية حين طرحت الإشكالية المشككة في الأطروحات التي قدمها رموز الثقافة الفرانكفونية ورواد عصر الأنوار، وقد تحدث عنها هاشم صالح في تعليقه على كتاب تاريخ الفلسفة الفرنسية، والجدل دائما ما يبدأ بسؤال تعقبه مسائل، والسؤال كان: هل توجد حقاً فلسفة فرنسية؟ ودارت الأطروحات حول أن فرنسا لا تعتبر بلداً فلسفياً بكل ما تحمله الكلمة من معان وجمل؟! الفرانكفونيون لا يمتلكون العقلية المتوقدة التي يتمتع بها جيرانهم الألمان والانجليز على سبيل المثال؟ الفرانكفونيون روحهم متواضعة وخفيفة وسطحية، والفكر يتطلب عقولاً ثقيلة أو أدمغة ضخمة كعقول مصنوعة من المدافع الثقيلة مثل (الماكينة المانية)، ساعتها نهضت القوة الدفاعية الفرانكفونية لتفرض نفسها وتدخل المعركة بكل ثقلها وتصدح بمقولة ديكارت الرائعة (أنا أفكر إذن أنا موجود)، ولا تتردد أوتخجل في أن تقارن نفسها مع الفلسفة اليونانية، والفلسفة الألمانية، فالفلاسفة الفرانكفونيون بالفعل فلاسفة وليسوا كتاباً أو أدباء فقط؟! من أبيلاروسان برنار في القرون الوسطى الى ديلوز ودريدا في العصر الراهن، مروراً بمونتيني، وديكارت، وروسو، وفولتير، وباسكال، ومالبرانش، وبيرغسون، وسارتر، فكانط اعترف بمديونيته لجان جاك روسو، وهيغل أشار إلى ديكارت بأنه بطل الفكر والمؤسس الحقيقي للفلسفة الحدثية، بل ويشير ميشيل سير، أحد كبار الفلاسفة الفرانكفونيين حاليا كما يعرفه هاشم صالح الذي نستعين بالكثير من مقولته هنا، إلى أن معظم فلاسفة الفرانكفونية وخاصة الرواد الذين قدموا الكثير للفكر الإنساني وضحوا ودفعوا الثمن غاليا كالعظماء الآخرين وربما أكثر منهم، كانوا يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم ومنبوذون من قبل معاصريهم. وقد أكدوا أنفسهم عن طريق التمرد على العقلية السائدة والامتثالية، عن طريق لغم القناعات الراسخة وتفكيكها، ولكن يبقى العامل المشترك لمعظم الفلاسفة الفرنسيين على مدار العصور أنهم كلهم تعرضوا للاضطهاد والعيش في المنافي لأجل أن يوصلوا أفكارهم إلى العالم أجمع؟!
إن معظم المفكرين الفرانكفونيين أدينوا بشكل أوبآخر من قبل سلطات عصرهم، سواء أكانت سلطات لاهوتية، أم سياسية، أم اجتماعية، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا بعد أن ماتوا ودفعوا الثمن، فرينيه ديكارت، اضطر إلى الهرب من بلاده والعيش في هولندا لمدة عشرين سنة، ثم في السويد لأنه كان يريد أن يتخلص من الجوالخانق السائد آنذاك في المملكة الفرنسية بسبب هيمنة التقليد والتحجر العقلي والأصولية الكاثوليكية. وجان جاك روسو عاش محتقراً، منبوذاً، مطارداً من مكان إلى آخر وكأنه مجرم!! وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته، ولم يتم تذكره إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية ليكرموا ذكراه، وينقلوا رفاته إلى مقبرة العظماء، ويتخذوا من كتبه دستوراً ومنهاجاً للجمهورية الفرنسية! وفولتير سجن في سجن الباستيل قبل أن يهرب إلى انجلترا، وحين وافته المنية رفض الكهنة الصلاة عليه أودفنه في مقابر المسيحيين لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً؟! وديدرو اعتقل لفترة من الزمن في سجن «فانسين»، وأما كوندرسيه فقد حكم عليه بالموت وانتحر في السجن، وبالمختصر المفيد فإن كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً وتضع أسماءهم على شوارعها وساحاتها العامة كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا، ولا يشذ عن ذلك فيكتور هيغو الذي نفاه نابليون الثالث لمدة عشرين سنة ليعيش كالبؤساء، قبل أن يعود كالفاتح المظفر إلى باريس؟!
حملت الكيس الذي أضع بداخله كتبا قليلة اقتنيتها من المعرض حتى لا اخرج خالي اليدين، فلم تكن هناك كتب تستدعى من المرء أن يقبل عليها بلهفة وشوق ونهم، وللعلم فقد أصبح معظمها موجود على الشبكة العالمية (E — books) وتمكن قراءتها من غير رقابة ولا مقص رقيب بعد ساعات قليلة من صدورها والرجوع إليها كمصادر في أي وقت ومكان وزمان؟! خرجت متسائلا عن الفرانكفونية التي رأيت، هل هي جديدة قديمة أم قديمة جديدة أم شيء آخر لا يريد أن يعرفنا ولا نريد أن نعرفه؟!
خــــالـــد الجــابــر
الجمعة، 1 يناير 2010
المواطن وأعواد الكبريت العربية
هل ستكون الرزنامة العربية 2010 أفضل أو وضعها مماثلا أو ستكون أسوأ؟!
2009-12-30
أجمل هدية قُدمت لي في بداية السنة الماضية 2009 كانت عبارة عن رزنامة على شكل أعواد الثقاب "أعواد الكبريت" (Matches Calendar)، رُسِمت عليها كل أيام السنة، وفي كل يوم يجب أن تقطع عوداً وتشعله أو ترميه حتى يظهر اليوم الذي بعده. والهدف الرائع من هذا التصميم هو إشعارك بأنك لا تستطيع الاحتفاظ بشيء إلى الأبد فقد ذهب اليوم وانتهت صلاحية العود، وكل ما عليك فعله أن تعي وتدرك أن اليوم الذي تعيشه مميز ويجب أن تستفيد من كل لحظة فيه وعند انتهائه يصبح جزءاً من الذكريات، كما أنه يأخذ من عمرك وينقص منه يوماً بعد يوم، وها هي الرزنامة تقارب الانتهاء فقد بقيت فيها أعواد تعد على الأصابع وربما تكون قد احترقت كلها عند نشر هذا المقال؟!!
وأنا أكتب هذه الكلمات تراءت لي للمرة الثانية القصة القصيرة "بائعة الكبريت" (The Little Match Girl) للكاتب الدنماركي المشهور هانس كريستيان أندرسن (Hans Christian Anderson) وهي تروي حكاية فتاة يتيمة وفقيرة، تعيش على أرصفة الطرقات وتجبر على بيع علب الكبريت للناس في الشوارع، وفي ليلة رأس السنة يشتد البرد فتجلس على قارعة الطريق حاسرة الرأس حافية القدمين ولا تجد من يشتري منها ولا تستطيع التوقف والعودة دون بيع بعض الأعواد وإلا ستتعرض للضرب والمهانة، وبعد أن أعياها التعب أحست بالبرد فقررت أن تشعل عوداً من الثقاب لتتدفأ به فخيل لها أنها في البيت تجلس مع أهلها إلى جانب المدفئة، وما إن شعرت بالدفء حتى أنطفأ عود الثقاب فقررت أن تشعل عوداً آخر فأشعلته، فخيلت لها مائدة توجد عليها أشهى الأطباق وكل ما لذ وطاب، وما إن همت بتناول بالطعام حتى انطفأ عود الثقاب فحزنت وقالت لنفسها لأشعل عوداً آخر، وما إن أشعلته حتى خُيلت لها شجرة عيد الميلاد وهي محاطة بالزينة والأضواء والهدايا من حولها. وما إن شرعت تفتح الهدية حتى انطفأ العود مرة أخرى فأشعلت العود الأخير فخيلت لها جدتها العطوفة، فخاطبتها قائلة: جدتي.. جدتي.. أين أنتِ أريدك معي أنا بحاجة إليكِ. فتبتسم لها جدتها ثم ينطفئ العود الأخير، وتموت الفتاة من البرد وسط عيدان الثقاب، وكان الناس حولها يتحدثون عن الفتاة المسكينة ويحاول كل منهم أن يفسر ما حدث!!
قبل نهاية السنة أتيحت لنا الفرصة لزيارة برلين وكانت الوجهة الرئيسية بالطبع أشهر جدار في العالم، والذي احتفل العالم بمرور الذكرى العشرين لسقوطه، وهو جدار برلين الذي لم يتبقَّّ منه إلا بقايا أجزاء يلتقط إلى جانبها السياح والزائرون الصور لتبقى ذكرى لحقبة تاريخية انقضت، بالإضافة إلى بيع العديد من الشظايا والأحجار التي يقال إنها جمعت من الجدار المنهار أو ربما صنعت في تايوان في احد المصانع الشعبية التي تسعى إلى الربح!! وعند موقع الجدار أمطرنا المرشد السياحي بالأسئلة والاستفسارات عن التاريخ وأهم القصص والراويات الحقيقية والمزيفة عن الناس الذين هربوا من جحيم الجدار، وأين هم الآن، وكم عددهم، وهل عملت لهم التماثيل والتذكارات.. وبكل برود وبعد أن أخبرنا باختصار عن بعض الأحداث؛ أوضح لنا أن الجدار الذي بني في عام 1961 وكل ما يرتبط به سقط من الذاكرة عندهم منذ زمن طويل، وبالتحديد بعد عام 1989، فهو أصبح في عداد الماضي ولا يبدو أن أحداً مهتم به بشغف وبتفاصيله إلا السياح وخصوصا من الشرق الأوسط والصين!!
عند الجدار، تذكرت للمرة الأولى حكاية (بائعة الكبريت) وتمثلت الفتاه عندي في المواطن العربي من الخليج إلى المحيط، الذي يشعل في كل سنة عوداً لكي يتدفأ به ويحلم، وبدل ترجمة الأحلام وتحقيقها له نقوم ببناء الجدران وتمكينها لكي لا يصل إليها، أحلام تجاوزت 1400 سنة غاب معها دورنا وإنجازاتنا وتجاوز الزمن كل ما طرحناه وقدمناه، فأصبحنا خارج التاريخ وعالة على الجغرافيا.. ونصر مع ذلك على أن لدينا الكثير لنقدمه!!. عدت بعدها إلى العالم العربي في زيارة لبعض الدول العربية لأشهد صراع الأخ مع أخيه من أجل مباراة في كرة القدم في مصر والجزائر، وأدخل مناقشات دموية حول توريث الأبناء في الجمهوريات العربية، وأجد المنع ومصادرة العلم والفكر والثقافة والرأي في معارض الكتاب التي قطعت الأميال للوصول إليها في الخليج العربي وبلاد الشام في الكويت وسوريا.
مجرد زيارة لكثير من البلدان العربية ستكتشف من خلالها مدى ما وصلنا إليه من تراجع خطير من خلال الحديث مع رجل الشارع إلى أكبر مسئول، فالحريات مخنوقة والديمقراطية محبوسة ومكبلة بالسلاسل والقيود، والمجتمع المدني غائب ومهمش ومعزول، وطغيان السلطات التنفيذية في مواجهة المؤسسات التشريعية والقضائية. البرلمان والمجالس البلدية، أصبحت هيئات تمثل مصالح فئات معينة ومحددة سلفا، ولا تجد من يدافع ويمثل المواطن، والصراعات لا تهدأ بين التيارات والجماعات والفتاوى الدينية بين السنة والشيعة، وتعزيز مشروع القبلية والطائفية والفئوية والولاء السياسي يتقدم ويسيطر ويتراجع مشروع بناء الدولة والتمسك بالدستور والولاء للوطن، ومكانة الفرد وحقوقه ودوره الاجتماعي كلها تحدد من خلال انتمائه العرقي أو الديني أو القبلي أو النوع الاجتماعي (الجنس) وليس على وفق ما يحمله الفرد من كفاءة ومؤهلات وخبرات؟!
جدران كثيرة وحواجز عديدة تبنى وتشيد وترتفع في السماء تفرق بيننا وتفصلنا عن بعضنا البعض وتخلق العداوات والمشاحنات والأحقاد، انقسام سياسي على الحدود يمنعنا من توقيع اتفاقيات مستقبلية لأبنائنا حتى في أبسط أنواعها كإصدار عملة موحدة، انهيارات في الاقتصاد وتراجع في المداخيل ولا نفتح الباب للتفكير والمراجعة، خسائر في استثمارات صناديق الأجيال ولا نفكر حتى في تمكين مبدأ الشفافية والمحاسبة، كما أن الحبس والنفي والتحديد والمنع والمصادرة هي عقيدتنا في التعامل مع البث الفضائي والأقمار الصناعية والإعلام الجديد والانترنت!! بالإضافة إلى انعدام وجود رؤية مجتمعية للتجدد، وغياب مراكز التخطيط والتنفيذ القوية وتركز السلطات كلها في يد أشخاص معدودين، وانعدام الشعور بالمسئولية وتدني الاهتمام بالإنسان، وانتشار الركود الاجتماعي والثقافي في المجتمع وغياب حراك حقيقي فاعل ومؤثر، إلى جانب الانقسام في مجتمعات تعيش في مرحلة انتقالية مُعقدة، إذ أنها تضع رِجْلاً في بيئة عربية إسلامية قبلية مذهبية محافظة وأحياناً شديدة المحافظة، ورجلاً أخرى في واقع سريع متغير ونظام عولمة فرضته الثروة ومستويات التعليم ودخول المرأة الحياة العامة على نطاق كبير؟!
لم أنتظر حتى ينتهي آخر عود في الرزنامة بل ذهبت إلى المكتبة المجاورة لبيتي في بلاد الغربة أبحث عن أخرى مماثلة، فقد أسرتني فكرة أعواد الثقاب وآمنت بأنها تجعلنا نفكر في الغد بشكل أفضل من خلال استثمار اليوم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل في حيرة وقلق وخوف هل ستكون الرزنامة العربية 2010 أفضل، أو وضعها مماثلا، أو ستكون أسوأ؟!.. كل عام وأنتم بخير.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
2009-12-30
أجمل هدية قُدمت لي في بداية السنة الماضية 2009 كانت عبارة عن رزنامة على شكل أعواد الثقاب "أعواد الكبريت" (Matches Calendar)، رُسِمت عليها كل أيام السنة، وفي كل يوم يجب أن تقطع عوداً وتشعله أو ترميه حتى يظهر اليوم الذي بعده. والهدف الرائع من هذا التصميم هو إشعارك بأنك لا تستطيع الاحتفاظ بشيء إلى الأبد فقد ذهب اليوم وانتهت صلاحية العود، وكل ما عليك فعله أن تعي وتدرك أن اليوم الذي تعيشه مميز ويجب أن تستفيد من كل لحظة فيه وعند انتهائه يصبح جزءاً من الذكريات، كما أنه يأخذ من عمرك وينقص منه يوماً بعد يوم، وها هي الرزنامة تقارب الانتهاء فقد بقيت فيها أعواد تعد على الأصابع وربما تكون قد احترقت كلها عند نشر هذا المقال؟!!
وأنا أكتب هذه الكلمات تراءت لي للمرة الثانية القصة القصيرة "بائعة الكبريت" (The Little Match Girl) للكاتب الدنماركي المشهور هانس كريستيان أندرسن (Hans Christian Anderson) وهي تروي حكاية فتاة يتيمة وفقيرة، تعيش على أرصفة الطرقات وتجبر على بيع علب الكبريت للناس في الشوارع، وفي ليلة رأس السنة يشتد البرد فتجلس على قارعة الطريق حاسرة الرأس حافية القدمين ولا تجد من يشتري منها ولا تستطيع التوقف والعودة دون بيع بعض الأعواد وإلا ستتعرض للضرب والمهانة، وبعد أن أعياها التعب أحست بالبرد فقررت أن تشعل عوداً من الثقاب لتتدفأ به فخيل لها أنها في البيت تجلس مع أهلها إلى جانب المدفئة، وما إن شعرت بالدفء حتى أنطفأ عود الثقاب فقررت أن تشعل عوداً آخر فأشعلته، فخيلت لها مائدة توجد عليها أشهى الأطباق وكل ما لذ وطاب، وما إن همت بتناول بالطعام حتى انطفأ عود الثقاب فحزنت وقالت لنفسها لأشعل عوداً آخر، وما إن أشعلته حتى خُيلت لها شجرة عيد الميلاد وهي محاطة بالزينة والأضواء والهدايا من حولها. وما إن شرعت تفتح الهدية حتى انطفأ العود مرة أخرى فأشعلت العود الأخير فخيلت لها جدتها العطوفة، فخاطبتها قائلة: جدتي.. جدتي.. أين أنتِ أريدك معي أنا بحاجة إليكِ. فتبتسم لها جدتها ثم ينطفئ العود الأخير، وتموت الفتاة من البرد وسط عيدان الثقاب، وكان الناس حولها يتحدثون عن الفتاة المسكينة ويحاول كل منهم أن يفسر ما حدث!!
قبل نهاية السنة أتيحت لنا الفرصة لزيارة برلين وكانت الوجهة الرئيسية بالطبع أشهر جدار في العالم، والذي احتفل العالم بمرور الذكرى العشرين لسقوطه، وهو جدار برلين الذي لم يتبقَّّ منه إلا بقايا أجزاء يلتقط إلى جانبها السياح والزائرون الصور لتبقى ذكرى لحقبة تاريخية انقضت، بالإضافة إلى بيع العديد من الشظايا والأحجار التي يقال إنها جمعت من الجدار المنهار أو ربما صنعت في تايوان في احد المصانع الشعبية التي تسعى إلى الربح!! وعند موقع الجدار أمطرنا المرشد السياحي بالأسئلة والاستفسارات عن التاريخ وأهم القصص والراويات الحقيقية والمزيفة عن الناس الذين هربوا من جحيم الجدار، وأين هم الآن، وكم عددهم، وهل عملت لهم التماثيل والتذكارات.. وبكل برود وبعد أن أخبرنا باختصار عن بعض الأحداث؛ أوضح لنا أن الجدار الذي بني في عام 1961 وكل ما يرتبط به سقط من الذاكرة عندهم منذ زمن طويل، وبالتحديد بعد عام 1989، فهو أصبح في عداد الماضي ولا يبدو أن أحداً مهتم به بشغف وبتفاصيله إلا السياح وخصوصا من الشرق الأوسط والصين!!
عند الجدار، تذكرت للمرة الأولى حكاية (بائعة الكبريت) وتمثلت الفتاه عندي في المواطن العربي من الخليج إلى المحيط، الذي يشعل في كل سنة عوداً لكي يتدفأ به ويحلم، وبدل ترجمة الأحلام وتحقيقها له نقوم ببناء الجدران وتمكينها لكي لا يصل إليها، أحلام تجاوزت 1400 سنة غاب معها دورنا وإنجازاتنا وتجاوز الزمن كل ما طرحناه وقدمناه، فأصبحنا خارج التاريخ وعالة على الجغرافيا.. ونصر مع ذلك على أن لدينا الكثير لنقدمه!!. عدت بعدها إلى العالم العربي في زيارة لبعض الدول العربية لأشهد صراع الأخ مع أخيه من أجل مباراة في كرة القدم في مصر والجزائر، وأدخل مناقشات دموية حول توريث الأبناء في الجمهوريات العربية، وأجد المنع ومصادرة العلم والفكر والثقافة والرأي في معارض الكتاب التي قطعت الأميال للوصول إليها في الخليج العربي وبلاد الشام في الكويت وسوريا.
مجرد زيارة لكثير من البلدان العربية ستكتشف من خلالها مدى ما وصلنا إليه من تراجع خطير من خلال الحديث مع رجل الشارع إلى أكبر مسئول، فالحريات مخنوقة والديمقراطية محبوسة ومكبلة بالسلاسل والقيود، والمجتمع المدني غائب ومهمش ومعزول، وطغيان السلطات التنفيذية في مواجهة المؤسسات التشريعية والقضائية. البرلمان والمجالس البلدية، أصبحت هيئات تمثل مصالح فئات معينة ومحددة سلفا، ولا تجد من يدافع ويمثل المواطن، والصراعات لا تهدأ بين التيارات والجماعات والفتاوى الدينية بين السنة والشيعة، وتعزيز مشروع القبلية والطائفية والفئوية والولاء السياسي يتقدم ويسيطر ويتراجع مشروع بناء الدولة والتمسك بالدستور والولاء للوطن، ومكانة الفرد وحقوقه ودوره الاجتماعي كلها تحدد من خلال انتمائه العرقي أو الديني أو القبلي أو النوع الاجتماعي (الجنس) وليس على وفق ما يحمله الفرد من كفاءة ومؤهلات وخبرات؟!
جدران كثيرة وحواجز عديدة تبنى وتشيد وترتفع في السماء تفرق بيننا وتفصلنا عن بعضنا البعض وتخلق العداوات والمشاحنات والأحقاد، انقسام سياسي على الحدود يمنعنا من توقيع اتفاقيات مستقبلية لأبنائنا حتى في أبسط أنواعها كإصدار عملة موحدة، انهيارات في الاقتصاد وتراجع في المداخيل ولا نفتح الباب للتفكير والمراجعة، خسائر في استثمارات صناديق الأجيال ولا نفكر حتى في تمكين مبدأ الشفافية والمحاسبة، كما أن الحبس والنفي والتحديد والمنع والمصادرة هي عقيدتنا في التعامل مع البث الفضائي والأقمار الصناعية والإعلام الجديد والانترنت!! بالإضافة إلى انعدام وجود رؤية مجتمعية للتجدد، وغياب مراكز التخطيط والتنفيذ القوية وتركز السلطات كلها في يد أشخاص معدودين، وانعدام الشعور بالمسئولية وتدني الاهتمام بالإنسان، وانتشار الركود الاجتماعي والثقافي في المجتمع وغياب حراك حقيقي فاعل ومؤثر، إلى جانب الانقسام في مجتمعات تعيش في مرحلة انتقالية مُعقدة، إذ أنها تضع رِجْلاً في بيئة عربية إسلامية قبلية مذهبية محافظة وأحياناً شديدة المحافظة، ورجلاً أخرى في واقع سريع متغير ونظام عولمة فرضته الثروة ومستويات التعليم ودخول المرأة الحياة العامة على نطاق كبير؟!
لم أنتظر حتى ينتهي آخر عود في الرزنامة بل ذهبت إلى المكتبة المجاورة لبيتي في بلاد الغربة أبحث عن أخرى مماثلة، فقد أسرتني فكرة أعواد الثقاب وآمنت بأنها تجعلنا نفكر في الغد بشكل أفضل من خلال استثمار اليوم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل في حيرة وقلق وخوف هل ستكون الرزنامة العربية 2010 أفضل، أو وضعها مماثلا، أو ستكون أسوأ؟!.. كل عام وأنتم بخير.
خــــالـــد الجــابــر
Aljaberzoon@gmail.com
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)